أين نحن من ثقافة الحب؟
تقول الحكمة القديمة إنه بالحب يحيا الإنسان، وإذا كان الحب حاجة دفينة أصيلة في نفس الإنسان فإنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من غير الحب أو أن يتوقف عنه.
والحب عند أفلاطون: «عامل خلق وإبداع بل هو عامل تربية وتهذيب والتربية ليست شيئاً آخر غير الحضور المستمر للحب».
ويستطيع الحب كما يقول كاردان أن يطور الكائنات الإنسانية وأن يجمع بينها. والإنسان الكامل هو الذي يعيش في دائرة الحب حاباً ومحبوباً. والإنسان كما يرى ذلك الفيلسوف «لن يستطيع أن يصل إلى مستوى نضجه الروحي من غير تأثير مشاعر قادرة على إثارة ذكائه وإزكاء طاقته وهي مشاعر تمتثل مبدئياً في طاقات الحب لديه».
والحب الإنساني يقود إلى الشعور بالانتماء والوحدة وهو من أشد تجارب الحياة انبعاثاً للبهجة والإثارة، وبالتالي فإن الانفصال يعني السقوط في عبودية الأشياء وفقدان القدرة على الفعل. وعليه إما يتحول إلى «حالة سلبية» أو «حالة إيجابية» تبعا لمنبعه ومجراه، وفي المجمل وغالبا في مجتمعاتنا يجري الحب في قنوات قسرية تحيد عن مجراها الطبيعي، لينتج كائنا غريبا عن محيطه وعن نفسه.
وقد تناول الأديب البرازيلي باولو كويلو الذي اشتهر بروايته الخيميائي، في كتبه لحالات الحب القسرية ابتداء من مرحلة الطفولة وحتى الكهولة.
ومن خلال عوالمه التي قدمها في مجموعة أعمال منها «فيرونيكا تقرر الانتحار» و»حاج كومبوستيلا» و»الجبل الخامس» و»والظاهر» و»قرب نهر بيدرا، جلست أبكي» سنقدم قراءة لمفهوم الحب بمختلف صوره بالتوازي بين جوهر ثقافته والواقع الشرقي وربما الغربي أيضا. بذرة الحب تكون العائلة بمثابة الأرض الحاضنة لبذرة الحب لدى قدوم كائن جديد إلى العالم، وبالتالي تشكل أجواءها العوامل التي ستساهم في رعاية نموها وتبرعمها أو تشوهها. ومن خلال كتابه «فيرونيكا تقرر الانتحار»
يمكن الدخول إلى عالم الحب في الطفولة.»إن كنت تحبني، عليك أن تنهي وجبة طعامك»، تلك عبارة شائعة لم يخلو بيت عائلة من ترديدها أو ترديد ما هو قريب منها بصورة يومية، لتنسحب هذه المقولة على أمور وقضايا أكثر أهمية ولترتبط باهتمامات وهوايات الأبناء سيما في مرحلة المراهقة مرحلة تبلور كينونتهم».
باسم هذا الحب يفرض على الأبناء سلوكيات لا تتوافق مع ميولهم. من منا لم يعش مثل هذه المقاربة في حياته! ولكن كم هم الذين أدركوا تبعة مثل هذه المقاربات! تحت مقولة الحب، يفرض الوالدان على أبنائهم تحقيق أحلامهما الشخصية التي لم يكتب لهما تحقيقها. «أريدك أن تكون طبيبا أو مهندسا .. وترفع اسمي عاليا».
وحينما ييأس الوالدان من إقناع الابن أو الابنة باختيار مسار مختلف عما يحلمون به، يلجآن إلى سلاحهما الأخير: »ماذا عن حبنا لك، وتضحيتنا بحياتنا لأجلك .. جل ما نرغب به ينحصر في منحك فرصة ممتازة في الحياة». وحينما لا يجدان التجاوب، يزيدان الجرعة إلى أقصاها لتبلغ حد التهديد أي الابتزاز العاطفي والفكري، «إن كنت تحبنا حقا، فإننا نرجوك باسم هذا الحب أن تفعل ما نريده منك .. لا تكن جاحدا لوالديك الوحيدين اللذين يكنان لك الحب ويبحثان عن مصلحتك». »
منذ ولادتك، بدأنا ببناء مستقبلك. أنت كل شيء في حياتنا، نجاحك هو ثمرة كفاحنا. كافحنا كثيرا لتحقيق ما هو متوفر لك الآن.. كل ذلك لأجلك فلا تحطم مستقبلك (ويقصدان أحلامنا)». ويختم الوالدين، أو أحدهما الخطاب بالقول، «إن كنت لا تحبنا.. فافعل ما شئت».
مفهوم الحب بين الرجل والمرأة :
ربما يحقق الابن حلم الوالدين سواء في اختيار دراسته أو مهنته أو المرأة التي سيرتبط بها وغير ذلك من قرارات مصيرية في حياته. ما يحدث في مثل تلك الحالات أن الابن أو الابنة يلغي ذاته ويحقق ما يريده الآخرون منه. وهذا في الواقع بداية انهيار عالمه الداخلي الذي يتهاوى تدريجيا، ليعيش دورا لا يمت له بصلة.
ولا عجب أن نجد العديد من الرجال والنساء الذين يدمرون كل ما حولهم بعد مضي جزء كبير من عمرهم لنسمع منهم، «أديت رسالتي وأريد أن أعيش الآن لنفسي»، كم فرد منا تبادر إلى ذهنه أن هؤلاء كانوا ضحية لمجتمعهم واستيقظوا فجأة في خريف العمر ليتداركوا قليلا مما فاتهم، وإن كان للأسف بصورة فوضوية تنتهي بتدمير الذات.
هذه الإرهاصات أو الضغوطات الداخلية، تحول الفرد إلى شخصية مضطربة ذات ازدواجية في السلوك، وربما غاضبة أو حاقدة تسعى لتدمير الآخرين بداية، ثم نفسها لاحقا وذلك على المدى البعيد، أو في أحسن الأحوال شخصية سلبية لا تملك أي تفاعل إيجابي مع الحياة. وهكذا يصبح «الحب» في نظر الابن أو الابنة البارة كابوسا .. قيدا حرمه من أحلامه ومن نفسه .. ومن هنا ينشأ الاغتراب عن النفس ولاحقا الأمراض النفسية.
........................................يتبع ......................