إن ما يجب تسليط الضوء عليه هو أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ذا بُعد وُجودي، أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه. ولتوضيح ذلك يمكن الإلماع إلى أن سُنّة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمّعات بشرية، وهي وإن اتّفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمّع والحرص على البقاء والرغبة في التّمكّن من مقوّمات الحياة والسّعي في إقامة التمدّن والعمران والتَّوق إلى الارتقاء والتقدّم فإنها قد تباينت في ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (1).
لقد أكدت الآية ما كان قد توصَّل إليه الحكماء والفلاسفة من قَبل وأثبته الواقع التاريخي المُشَاهد من أن الإنسان مَدني بطبعه، بمعنى أنه لا تتحقّق حياته ولا ينبني كيانه ولا تكتمل ذاته ولا يكتسب ما تصبو إليه قدراته إلاّ داخل وسط اجتماعي متشابك فيه الخير والشر، وفيه التحابُب والتباغض، وفيه التجانس والتنافر، وفيه الأنا والأنا الآخر.
فالإنسان ابن بيئته، فهي التي تنشئه وتكونه وتلونه، وهي التي توفر له ما تملك مما يفي بحاجاته الأساسية، كما أنها هي التي تَكفيه مع ما تقدّس من شعائر وتطبعه بما تقدر من عادات، وهي التي تأقلمه بشكل يجعل ما هو من متعلقات ذاتيته يتناسق مع روحها العامة وينسجم مع ما لديها من غاية مشتركة.
من ذلك، نتبيّن أن التنوّع بين الناس أفراداً وجماعات ما كان انحرافاً ولا شذوذاً ولا مُروقاً، بل كان من طبيعتهم البشرية ومن أصل خلقتهم الآدمية، فهو ظاهرة ضرورية اقتضتها الفطرة الإنسانية واستلزمتها النشأة الاجتماعية.
إنه تنوّع في الطبائع والأمزجة والمواهب والميول والمؤهلات والطموحات. وإنه تنوّع في أنماط الممارسات الاعتقادية وتباين في التمثّلات الطقوسية وتغاير في التجلّيات السلوكية وتمايز في المنطلقات الفكرية. وإنه تنوّع إيجابي فيه ثراء وخصوبة وتلاقح، يحفّز على الاضطلاع بالمسؤوليات الثّقال، ويدفع إلى جعل الوفاء بالحاجات النفسية والعقلية والوجدانية والاجتماعية والحضارية واقعاً مرئياً وخياراً متاحاً أمام القدرات والكفاءات.
وقد ألمع القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكّن كل فرد وكل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها {ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين} (2).
وهكذا نلحَظ، أن الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومَدَنيات إنما هو التعارف لا التَّناكر، والتعايش لا الاقتِتَال، والتعاون لا التَّطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحاً أن أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ضرورياً ضرورة الوجود نفسه.
مما تقدّم، نتبيّن أن قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يُقرّ الاختلاف ويقبل التنوّع ويعترف بالتغاير ويحترم ما يميز الأفراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية ومخيال، ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله، هي سبب وجوده وسرّ بقائه وعنوان هويته ومَبعث اعتزازه.
من الواضح أن قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي التسليم بأنه إذ ا كان لهؤلاء وجود فلأولئك وجود، وإذا كان لهؤلاء دين له حُرمته فلأولئك دين له الحُرمة نفسها، وإذا كان لهؤلاء خُصوصية ثقافية لا ترضى الانتهاك فلأولئك خُصوصية ثقافية لا تقبل الـمَسّ أبداً.
إن التسامح الديني يُعدّ أرضية أساسية لبناء المجتمع المدني وإرساء قواعده، فالتعدّدية والديموقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط ولا المساومة، فالتسامح -إذ ن- عامل فاعل في بناء المجتمع المدني، ومشجّع على تفعيل قواعده.
وهكذا، نستخلص أن التسامح يستوجب الاحترام المتبادل، ويستلزم التقدير المشترك، ويدعو إلى أن تتعارف الشعوب وتتقارب، ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية من دون المسَاس بدائرة الخصوصية من غير إثارة لحساسيتها، وانتهاك لحُرمة ذاتيتها، وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح الشَّراكة الفاعلة التي يعود مردودها بالخير على الجميع.
موقف الأديان من التسامح الديني
من البديهي أن الأديان بحكم انتمائها إلى السماء، فإنها لا تأمر إلاّ بالخير والحق والصلاح ولا تدعو إلاّ بالبِرّ والحب والرحمة والإحسان، ولا توصي إلاّ بالأمن والسلم والسلام، وما كانت يوماً في حدِّ ذاتها عائقاً أمام التبادل والتلاقح والتَّثاقف ولا أمام التعايش والتعارف والحوار، وإنما العائق يكمن في الذين يتوهّمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويستغلّون الأديان في أقدار الناس ومصائرهم، تلك المهمة التي أبَى الله تعالى أن يمنحها لأنبيائه الأخيار.
إن الإسلام من جهته يعترف بوجود (الغير) المخالف فرداً كان أو جماعة ويعترف بشرعية ما لهذا (الغير) من وجهة نظر ذاتية في الاعتقاد والتصوّر والممارسة تخالف ما يرتـئيه شكلاً ومضموناً. ويكفي أن نعلم أن القرآن الكريم قد سمّى الشِّرك ديناً على الرغم من وضوح بطلانه، لا لشيء إلاّ لأنه في وجدان معتنقيه دين (3).
ومن هنا، فإن جريمة المشركين لم تكن في إعراضهم عن الإسلام، وإنما في كونهم رفضوا أن يعيش دين جديد بجوار دينهم، فقرّروا مَحْقَه واستئصاله من الوجود.
هذا وقد أوصَل بعضهم الآيات الواردة في شأن احترام الأديان الأخرى واحترام خصوصيتها واتباعها إلى أكثر من مائة آية موزّعة في ست وثلاثين سورة.
ولم يكتف القرآن بتشريع حرية التديّن، بل نجده قد وضع جملة من الآداب، يمكن عَدّها بيداغوجية للتسامح الديني، فقد دعا المسلمين إلى أن يكونوا لغيرهم موضع حفاوة ومودّة وبِر وإحسان. قال تعالى: {لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يُقاتلُوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(4).
وإتساقاً مع تلك الدعوة إلى حُسن التعامل، نرى القرآن يحذّر أتباعه ويَنهاهم عن سَبّ المشركين وشتم عقائدهم، {ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عَدْواً بغير علم} (5). يشير مضمون الآية إلى كونها تلقين مستمر المدى حيث أوجب الله تعالى في كل زمان ومكان الالتزام بهذا الأدب وعدم شتم غيرهم وعقائدهم (6).
والواقع أن المرء إذ ا نظر إلى تلك المبادئ المتعلقة بموضوع حرية التديّن التي أَقَرَّها القرآن بموضوعية، لا يسعه إلاّ الاعتراف بأنها فعلاً مبادئ التسامح الديني في أعمق معانيه وأروع صوره وأبعد قِيمه.
والصحيح أن الإسلام لم يكن وحده في اشتماله على مبادئ التسامح، فالمسيحية التي تقول أناجيلها..
* لقد قيل لكم من قبل أن السنّ بالسنّ والأنف بالأنف، وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشرّ بالشرّ بل من ضرب خدّك الأيمن فحوّل إليه الخد الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه ازارك ومن سخّرك لتسير معه ميلاً فسر معه ميلين (7).
* من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان (8).
* عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم وإن متّم بكوا عليكم (9).
هي بدورها تتضمّن مبادئ التسامح في أَجْلى صوره، بل إنه تسامح يبدو أحياناً فوق الطاقة.
الصحيح كذلك أن اليهودية تدعو إلى التسامح فإذا نظرنا إلى مثل هذه الوصايا..
* كل ما تكرهُ أن يفعلهُ غيرك بك فإياك أن تفعلهُ أنت بغيرك (10).
* اغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شرَّ أفكاركم (...) وكفّوا عن الإساءة. تعلّموا الإحسان والتمسوا الإنصاف (11).
وهكذا بات واضحاً أن التسامح الديني مطلب إنساني نبيل دَعَت إليه الأديان كافة دون استثناء، وكيف لا تدعو إليه وقد أرادته الحكمة الإلهية واقتضته الفِطرة الإنسانية واستوجبته النشأة الاجتماعية وفرضته المجتمعات المدنية وتُحتّمه ثقافة العولمة وما تحتاج إليه من قِيَم حضارية ومَدنية نبيلة. والمهم أيضاً، أن الإشكال ليس في الأديان ذاتها وإنما هو كامن في عُقم إفهام بعض القائمين عليها ولا زالت المفارقات بين المبادئ والممارسات الواقعة هنا وهناك لا تُحصى. أليس هناك إجماع على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ومع ذلك فإننا نجد من التفاسير ما لم تحرص على شيء حرصها على إظهار الإسلام في شكل لا يقدر على تطبيقه إلاّ من أَلِفَ العيش في مغاور جبال أفغانستان ؟
ألم يكن هناك إجماع على أن الإسلام دين ينبذ الغلظة والفضاضة والجفاء ويحض على اللين والرّفق والسماحة والتيسير ويأمر بالتحابُب والتوادُد والتراحم والتآلف ويعترف بوجود الآخر ويُقر حقّه في التَّديّن ويُقدّر اختياره ويدعو إلى احترام ما ارتضاه من خصوصية وإلى التعامل معه بلطف وإحسان وينهى عن سبّه والتحرّش بدينه، ولكن هل لدى الخطاب الديني المتشنّج من براعة سوى إمطار المخالفين من داخل دينه وخارجه بالقذائف الجارحة التي لا تحصى ولا تُعد ؟ إن التسامح الديني يتطلّب الاحترام المتبادل ويقتضي التخلّي عن الأساليب الدوغمائية والإقصَائية.
إن الأقوال من قبيل.. الحروب المقدسة والحروب الصليبية، نحن وحدنا على طريق الحق والخير، وغيرنا شرير وفاسد، كافر، ملحد، مهرطق، لائكي، عَلماني.. وغيرها، لغة لا يستسيغها التعامل المدني الراهن (اليوم)، ومع ذلك قد استعملت حتى من قِبَل من كنّا نعدّهم حضاريين. وعلى كُلّ فإنها تنتمي إلى صراع حالك من التاريخ. وإذا كانت الغاية من دراسة التاريخ البحث عمّا وقع فيه من إيجابيات، أليس حريّاً بنا أن نتأسّى بما حصل فيه من تجارب مُشرقة.
لقد أفادنا التاريخ بأن المسلمين قد انفتحوا – أيام عطائهم الحضاري وازدهارهم الثقافي– على معارف وعلوم وثقافات، وحرصوا على أن يفهموها ويستوعبوها ويستفيدوا منها، حتى أن التاريخ يؤكد أنهم ما استطاعوا أن يُقيموا حضارتهم التي أقاموها إلاّ بعد اطلاعهم واستفادتهم مما وجدوا لدى غيرهم. وقد شَرع ذلك الانفتاح الكوني الذي سلكوه الأبواب على مصاريعها أمام التعرّف والتقارب والتبادل، وعزّز الأدوار الإيجابية الفاعلة التي كانت تؤدّيها تلك المناظرات التي كانت تستقطب– عبر بيوت الحكمة التي تنافس أولو الأمر في تأسيسها – العلماء من مختلف الأديان، وقد أقبَل المسلمون عليها بتلقائية وقَصد، وقبلوا فيها شرط الالتزام بعدم الاستدلال على مَقولاتهم لا بالكتاب ولا بالسُّنة نزولاً عند رغبة مناظريهم من اليهود والنصارى وحتى من البوذيّين والمجوس وغيرهم تمسّكاً بالعقلانية وتحقيقاً للموضوعية وتطبيقاص للمنهجية العلمية التي ترفض الخُطَب التقريرية والمقولات المعلّبة الجاهزة.
إن المفارقات ليست مبرراً إطلاقاً سواء كانت صادرة من الشرق أو من الغرب، ومهما بلغت تداعياتها من فداحة لم تكن مَدعاة لليأس والإحباط بقدر ما هي حافز قوي يدعو قوى الخير في العالم إلى تفعيل قواعد المجتمع المدني حتى يكون لها موقع من العولمة ثابتاً ومَكيناً. ثم إن العولمة لا تكون إرهاصاً لمستقبل أكثر اطمئناناً وأشد تضامناً إلاّ ببلورة القيم الكونية وتفعيلها واتخاذها المُنطلق والمرجع. ولا يتيسّر هذا إلاّ بتضامن مبادئ الأديان النبيلة، وتعاون جهود الثقافات الواعية القادرة على خلق فكر حضاري يتوارى– أمامه مذموماً، مدحوراً – كل خطاب يُشوّه المقدّس، ويغتال العقل ويُصادر الحرية ويجذب إلى الخلف ويتنكّر للحداثة ويحاول عبثاً أن يلفت التاريخ إلى الوراء. إن الحرص على خلق عالم جديد خال من حقد العنصرية العرقية، وبغضاء التطاحن الديني هدف كوني نبيل يتطلّب مبادرات جادة وفاعلة.
يبقى أن القِيم الكونية تحتاج إلى تضامن ونضال دؤوب، وبرغم ما يُعيقه من صراع كريه تطفح تداعياته البشعة على سطح الساحة العالمية، فإنه ليس بعزيز ولا مستحيل على المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية والجمعيات الحكومية وغير الحكومية في العالم إذ ا تَاَنْسَنَت أهدافها واتّفقت منطلقاتها وتكاتفت جهودها.