باب القول في { بسم الله الرحمن الرحيم } قال أبو بكر : الكلام فيها من وجوه : أحدها : معنى الضمير الذي فيها . والثاني : هل هي من القرآن في افتتاحه ؟ والثالث : هل هي من الفاتحة أم لا ؟ والرابع : هل هي من أوائل السور ؟ والخامس : هل هي آية تامة أم ليست بآية تامة ؟ والسادس : قراءتها في الصلاة . والسابع : تكرارها في أوائل السور في الصلاة . والثامن : الجهر بها . والتاسع : ذكر ما في مضمرها من الفوائد وكثرة المعاني فنقول : إن فيها ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه ؛ لأن الباء مع سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل إما مظهر مذكور ، وإما مضمر محذوف ، والضمير في هذا الموضع ينقسم إلى معنيين : خبر وأمر ، فإذا كان الضمير خبرا كان معناه : أبدأ بسم الله ، فحذف هذا الخبر وأضمر ؛ لأن القارئ مبتدئ ، فالحال المشاهدة منبئة عنه ، مغنية عن ذكره ، وإذا كان أمرا كان معناه : ابدءوا بسم الله ، واحتماله لكل واحد من المعنيين على وجه واحد . وفي نسق تلاوة السورة دلالة على أنه أمر ، وهو قوله تعالى : { إياك نعبد } . ومعناه : قولوا إياك ، كذلك ابتداء الخطاب في معنى قوله : { بسم الله } . وقد ورد الأمر بذلك في مواضع من القرآن مصرحا وهو قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك } فأمر في افتتاح القراءة بالتسمية كما أمر أمام القراءة بتقديم الاستعاذة ، وهو إذا كان خبرا فإنه يتضمن معنى الأمر ؛ لأنه لما كان معلوما أنه خبر من الله بأنه يبدأ باسم الله ففيه أمر لنا بالابتداء به والتبرك بافتتاحه ؛ لأنه إنما أخبرنا به لنفعل مثله ، ولا يبعد أن يكون الضمير لهما جميعا ، فيكون الخبر والأمر جميعا مرادين ، لاحتمال اللفظ لهما فإن قال قائل : لو صرح بذكر الخبر لم يجز أن يريد به المعنيين جميعا من الأمر والخبر ، كذلك يجب أن يكون حكم الضمير في انتفاء إرادة الأمرين ، قيل له : إذا أظهر صيغة الخبر امتنع أن يريدهما لاستحالة كون لفظ واحد أمرا وخبرا في حال واحد ؛ لأنه متى أراد بالخبر الأمر كان اللفظ مجازا ، وإذا أراد به حقيقة الخبر كان حقيقة ، وغير جائز أن يكون اللفظ الواحد مجازا حقيقة ، لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضعه ، والمجاز ما عدل به عن موضعه إلى غيره ، ويستحيل كونه مستعملا في موضعه ومعدولا به عنه في حال واحد ؛ فلذلك امتنع إرادة الخبر والأمر بلفظ واحد ، وأما الضمير فغير مذكور ، وإنما هو متعلق بالإرادة ولا يستحيل إرادتهما معا عند احتمال اللفظ لإضمار كل واحد منهما ، فيكون معناه حينئذ : أبدأ بسم الله على معنى الخبر ، وابدءوا أنتم أيضا به اقتداء بفعلي وتبركا به غير أن جواز إرادتهما لا يوجب عند الإطلاق إثباتهما إلا بدلالة ؛ إذ ليس هو عموم لفظ مستعمل على مقتضاه وموجبه . وإنما الذي يلزم حكم اللفظ إثبات ضمير محتمل لكل واحد من الوجهين . وتعيينه في أحدهما موقوف على الدلالة كذلك قولنا في نظائره نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } لأن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا ويحتمل المأثم لم يمتنع إرادة الأمرين بأن لا يلزمه شيء ، ولا مأثم عليه عند الله لاحتمال اللفظ لهما وجواز إرادتهما ، إلا أنه مع ذلك ليس بعموم لفظ فينتظمهما ، فاحتجنا في إثبات المراد إلى دلالة من غيره ، وليس يمتنع قيام الدلالة على إرادة أحدهما بعينه أو إرادتهما جميعا . وقد يجيء من الضمير المحتمل لأمرين ما لا يصح إرادتهما معا ، نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : إنما الأعمال بالنيات } . معلوم أن حكمه متعلق بضمير يحتمل جواز العمل ويحتمل أفضليته فمتى أراد الجواز امتنعت إرادة الأفضلية ؛ لأن إرادة الجواز تنفي ثبوت حكمه مع عدم النية ، وإرادة الأفضلية تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة مع إثبات النقصان فيه ونفي الأفضلية ، ويستحيل أن يريد نفي الأصل ونفي الكمال الموجب للنقصان في حال واحد . وهذا مما لا يصح فيه إرادة المعنيين من نفي الأصل وإثبات النقص ، ولا يصح قيام الدلالة على إرادتهما قال أبو بكر : وإذا ثبت اقتضاؤه لمعنى الأمر انقسم ذلك إلى فرض ونفل فالفرض هو ذكر الله عند افتتاح الصلاة في قوله تعالى : { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } فجعله مصليا عقيب الذكر ، فدل على أنه أراد ذكر التحريمة وقال تعالى : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } . قيل إن المراد به ذكر الافتتاح .