كيف كان العرب بشعوبهم وأنظمتهم في خريف عام 1973؟ ومن سعى لتحقيق تضامنهم وجمع كلمتهم من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة عام 1967؟ وماذا جنوا من حربهم المدروسة ضد غطرسة آلة إسرائيل العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة وحلف الأطلسي في السادس من تشرين الأول عام 1973 على المستويين القومي والوطني؟ وهل غضب الشعوب العربية اليوم عائد في بعض أسبابه إلى تضييع الأنظمة لتضحيات الشعوب وحقوقها ولشعور الأجيال الجديدة بالخيبة من إمكان استكمال مشروع التحرر الوطني والاجتماعي؟
أسئلة تقفز إلى الذهن في الذكرى الثامنة والثلاثين لحرب تشرين التحريرية التي أنجزها الجيشان السوري والمصري، مدعومَيْن بتأييد شعبيهما وبتأييد عربي رسمي وشعبي، وبمساندة قوية من منظومة الدول الاشتراكية السابقة، وفي طليعتها الاتحاد السوفييتي صديق العرب النزيه، ومن قوى التحرر والسلام والعدالة في أصقاع الكوكب. وقد شاركت قوات رمزية من معظم الدول العربية في القتال على الجبهتين السورية والمصرية.
وقد عكفت مراكز الدراسات العسكرية على تحليل وقائع تلك الحرب، وصاغت مراكز الاستخبارات في الدول الغربية خططاً تأخذ بالحسبان نتائج تلك الحرب السياسية والشعبية والنفسية. أما الإسرائيليون وحلفاؤهم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فقد بحثوا عن جوانب التقصير الاستخباري والعسكري التي كشفتها الحرب، وراحوا يعدون خططاً بعيدة المدى لتضييع ما جناه العرب بتضامنهم وتضحيات جنودهم وشعوبهم في تلك الحرب ضد المحتلين الإسرائيليين.
معظم المحللين رأوا أن حرب تشرين التحريرية وضعت الدول العربية على خريطة الدول الناهضة، ومنحت قضاياهم العادلة في التحرر والسيادة على أراضيهم وثرواتهم حضوراً لافتاً في المجتمع الدولي، وأزاحت عن كاهل الأجيال التي شهدت هزيمة حزيران عام 1967 مشاعر المهانة والإحباط والعجز.
ولكن الأنظمة العربية لم تستفد من دروس حرب تشرين ونتائجها بطريقة تخدم من خلالها مشروع تحرر شعوبها، ولم تعزز تضامنها من أجل استكمال استرداد حقوقها المشروعة، ولم تفطن إلى أن القرارات الدولية وأشكال الدعم الدولي يمكن أن يؤخر تنفيذها أو تتغير بتغيّر الظروف وتبدل المعطيات والمصالح. إذ أخّر تنفيذ القرارين 242 و338 حتى اليوم، وألغي قرار اعتبار الصهيونية عنصرية الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة أواسط سبعينيات القرن الماضي، ولم يستعد الشعب الفلسطيني حقه في بناء دولته المستقلة إلى الآن.
ونتيجة للتجاذبات والانقسامات العربية التي برزت في القمم العربية، انهار التضامن العربي، وعقدت اتفاقيات منفردة مع إسرائيل المعتدية، وجرت علاقات علنية وسرية معها رغم مواصلة اجتياحاتها وبطشها ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني وتهديداتها لدول المنطقة. وأطلقت القمتان العربيتان في فاس المغربية وبيروت مبادرتَيْ سلام في ظروف غير مواتية، ودون أي غطاء أو بدائل جدية.
ونعتقد أن النظام العربي الرسمي في خريف العام الحالي يبدو في أسوأ أحواله، إذ عمّ الغضب الشعبي الشارع العربي من المغرب إلى العراق المحتل، ومن لبنان إلى اليمن والبحرين، وأنتج الأداء السياسي لمعظم الأنظمة وحكوماتها والتناقضات بين البرامج المعلنة والممارسات البائسة احتقانات شعبية ومشكلات داخلية ومعيشية معقدة، جرى التعبير عنها في هبات واحتجاجات متلاحقة تحولت إلى انفجارات وانشطارات وتغييرات أنظمة حاكمة وانقسامات داخلية في تونس ومصر واليمن وليبيا والسودان، وإلى خريف غضب تتلاحق فصوله لتعصف بما تبقى في الذاكرة العربية من معاني التحرر الفعلي والسيادة الحقيقية والاستقلال الناجز، ولتجعل التضامن العربي والعمل العربي المشترك محطة مشرقة في تاريخ بعيد يصعب استرجاعها.
ونرى أن تضييع إنجازات خريف 1973 قد جرى في غفلة من الأنظمة العربية التي شغلت بحماية امتيازاتها وقمع شعوبها وهدر الثروات العامة على حاجات ترفيه ضيقة، ولم تلحظ الخطط والسيناريوهات التي أعدت بعيد حرب تشرين لاستعادة الهيمنة على المنطقة، وآخرها مشروع الشرق الأوسط الأوسع (لتصدير الديمقراطية والرفاه إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) الذي (تنعم) شعوب أفغانستان والعراق وباكستان واليمن والسودان وتونس ومصر ببعض نتائجه الكارثية من احتلال ووجود عسكري أجنبي واستيطان إسرائيلي وحروب داخلية وتوترات وفوضى عارمة نسفت الكثير مما حققته الشعوب بتضحياتها من مكاسب ونجاحات تنموية ووطنية خلال عقود.
ونرى أن استيعاب الدروس الثمينة لخريف التحرر عام ،1973 والدروس القاسية لخريف الغضب هذه الأيام، يفرض على الأنظمة العربية أن تقرأ نبض الشارع، وتجري حواراً صريحاً نقدياً مع الشعوب وقواها الحية الناهضة الغاضبة من أدائها، وأن توفر لها احتياجاتها الأساسية في العيش وحرية التعبير والانتخاب والعمل والتعليم وتقلد المناصب على أساس الكفاءة لا المحسوبية، وأن تعيد إلى هذه الشعوب حلمها المنكسر وطموحها المشروع لبناء دول قادرة، وإلى التضامن والتحرر من الهيمنة والتدخلات الخارجية، وإلى السيادة الكاملة على الأوطان والخيرات المادية الناضبة، إذ لن ترضى الشعوب العربية في الألفية الثالثة بالعبودية الجديدة والاستلاب، وهي قادرة أن تستعيد المبادرة وتصنع أكثر من خريف للانعتاق والمواطنة الحقة.