مكان يستحق الزيارة والاهتمام...المتحف المدرسي للعلوم... تحفة لانعرف قيمتها وغني بمقتنيات الإرث العلمي المدرسي
الفنان موفق مخول
أدرك العالم اليوم أن العلوم والثقافة أصبحتا مرتبطتين بعضهما بالبعض الآخر وأن هذا الارتباط يشكل علاقة تكامل فالعصر عصر العلوم والمعرفة، حتى إن معظم الدول النامية اتجهت إلى تحقيق ذلك في حياتها العلمية وخاصة في التعليم الأساسي وما يتبعه من مراحل أخرى للتعليم فعملت على إدخال المتاحف كبرامج أساسية في التعليم لديها مثلها مثل المدارس والمعاهد والكليات وأصبح الهم الأساسي لها اليوم هو كيفية توجيه الطالب نحو تلك المتاحف التي أثبتت جدواها المثلى في كيفية تغطيتها لجوانب النقص في التعليم إلى جانب استغلالها للمبالغ الكبيرة التي تصرف على المدارس في جوانب التعليم العملي. وفي هذا الصدد نحن اليوم نعرض لكم ما شاهدناه خلال زيارتنا لأحد أهم المتاحف التعليمية والتثقيفية في الوطن العربي وقد يعد الأول من نوعه وهو «المتحف المدرسي للعلوم» في حي القصور في دمشق لما يحتويه في طابقه الأول من معروضات للصياد المرحوم حسين الإيبش فهو أول موثق للحياة البرية في العالم إذ بدأ مشروعه عام 1910، حيث استند الموجه التربوي موفق مخول المشرف على المتحف في بداية المشروع في معروضاته بشكل أساسي على هذه المحنطات التي تبرع بها الصياد الدمشقي والتي يبلغ عددها 414 قطعة، إضافة إلى 219 صورة فوتوغرافية توثق لرحلاته من بدايات القرن الماضي، وهي محنّطات سلمت بعد وفاته بناءً على وصيته إلى محافظة دمشق، وقد تعرف مخول إلى هذه الموجودات بالمصادفة، واطلع على العدد الضخم الذي تحتويه من رؤوس وأجسام لحيوانات نادرة، فبدأ منذ عام 1989، محاولاته لإقامة متحف لها أو وضعها في مكان يحمل صفة عامة، بحيث تكون متاحة لأكبر عدد من الناس. لكن محاولاته لم تنجح، وبقي يحاول لسنوات طويلة ليتمكّن في النهاية مع بداية 2007، من الحصول على الموافقة لإقامة متحف متخصص يضم هذه الموجودات، ويباشر عمله بالتعاون مع عدد من مدرسات الفنون، ليصنعوا من مكان صغير في إحدى مدارس القصور قرب مدرسة عبد القادر أرناؤوط، معرضاً متخصصاً، وليكون واحداً من أبرز المعارض في سورية وربما في المنطقة.
ولكي يكون المتحف بطابع علمي أكبر وأوسع، فكر مخول في تطويره والاستفادة من الإرث المهمل في مدارسنا الذي لا ندرك قيمته، فجمع من مدارس سورية مختلف الوسائل التدريسية التي كانت تستخدم على مدار السنوات الطويلة، ويعود بعضها إلى أيام الاحتلال الفرنسي لسورية. لتجد في الطابق الثالث وسائل إيضاحية نفتقدها اليوم، تضم حشرات مجففة ومجاهر من مختلف العصور. كما يحتوي على أنواع مختلفة من الآلات الكاتبة والحاسبة القديمة، التي ربما لم يسمع عنها الكثير منا ولم يرها البتة.
وأهم ما يميز المتحف بساطته المتلاقية بشكل غريب مع الطبيعة، لدرجة تشعر الزائر بأنه دخل مغارة غريبة أوصلته مباشرة إلى مجاهل إفريقيا، فما أن يدخل الزائر المكان حتى يرى فيلماً سينمائياً يقدم شرحاً عن حيوانات تلك الغابات، والموجودة في المتحف محاطة بالصور الفوتوغرافية التي تسجل رحلات الصياد وجزءاً من مغامراته، لينتقل بعدها، عبر الدرج الضيق ذي الإضاءة الخافتة والمزين بأعداد كبيرة من رؤوس الغزلان وجماجمها، إلى المتحف بغرفه المتعددة في الطابق الثاني، حيث سيفاجأ بأجسام الحيوانات المحنطة من زرافات وفيلة، ويمتلك فكرة أوسع عنها من خلال شرح المشرفين على المعرض.
مخول: المتحف وسيلة للتحريض على التفكير والبحث العلمي
وفي حديث لـ«الوطن» مع الفنان موفق مخول المشرف على المتحف قال: «إن المشروع أكبر من مجرد متحف بسيط، يفتح أبوابه طوال الأيام، ويستقبل طلاب المدارس أو الأطفال مع ذويهم، إنما هو وسيلة لتحريضهم على التفكير والبحث والتعرف إلى أشياء جديدة سمعوا عن بعضها، وتعرفوا إلى بعضها الآخر».
والغاية من المتحف كما يقول مخول: ليس أن تري طفلاً أثراً ما أو قطعة قديمة، بل هو نظام تربوي إلزامي يطوِّر عقل الطفل وكيف يشغل حواسه، كيف يحيي الماضي، الطفل لابدَّ أن يحيى في خياله، وأن تحترم الطفل يعني أنه سيحترمك ويقدِّرك، ونحن في هذا المتحف نسعى إلى ذلك.
وعن الخطوة الأولى لهذا المشروع يقول مخول: «متاحف العالم تبدأ بفكرة، شاهدت محنطات الصياد الدمشقي حسين الإيبش في مبنى محافظة دمشق ومن هنا جاءت الفكرة، فتقدمت بطلب لجمع هذه المحنطات في متحف ليراها كل الناس ويتم استثمارها بالشكل المناسب، فساعدني بذلك وزير التربية ومحافظ دمشق بشر الصبان، وكان لهما فضل في تنفيذ الفكرة، وكان هذا المتحف النوعي الأول في سورية الذي لم يتوقع أحد أننا سنتوصل لنتيجته هذه، ففكرة المعرض انطلقت من لا شيء ولكننا حققنا هذا الشيء».
ويضيف مخول: إنه يسعى دائماً بالتعاون مع مديرية التربية لتوسيع نشاط المتحف والاستمرار بتقديم كل ما يمكن للأطفال وإن هناك فكرة توسيع للمتحف وهي إنشاء طابق من أجل إجراء أنشطة تفاعلية من تجارب علمية يستطيع الطلاب والتلاميذ إجراءها على أرض الواقع، مؤكداً أن المتحف اليوم ليس مجرد متحف مدرسي فحسب بل هو متحف أكاديمي يستقطب طلاب المعاهد العليا والجامعات إضافة إلى المهتمين والسياح والباحثين.
الإيبش: المحنطات نقل وتوثيق للبيئة الإفريقية والهندية
ومن جانبه عمر فايز الإيبش أحد أبناء أسرة حسين الإيبش أوضح لـ «الوطن»: «إن معروضات هذا المعرض من المحنطات والصور والوثائق التي قام بجمعها وتوثيقها الصياد حسين الإيبش لم تكن بهدف الصيد من أجل الصيد بل كانت بهدف البحث العلمي وجمعها في متحف يكون محوراً للبحث العلمي يطلع عليه الناس والأطفال، ونقل البيئة الإفريقية والهندية موثقة، فحسين الإيبش يعد أول موثق للحياة البرية في العالم وأول إنسان وثق بالصور والوثائق ما عاشه خلال 12 سنة مع شعوب وقبائل هذه المناطق الإفريقية والهندية ونقلها لنا».
وأضاف: الإيبش «إن وصية جده حسين كانت دائماً أن تكون هذه المجموعة من المحنطات والصور والوثائق هدية للوطن بعد وفاته علماً أن العائلة تلقت أموالاً طائلة وعروضاً كثيرة مغرية لنقلها للخارج تم رفضها جميعاً تنفيذاً لوصية جدي حسين، وأنا أشكر وزارة التربية وخاصة وزير التربية علي سعد ومدير التربية هزوان الوز لما أولياه من اهتمام ودعم لهذا المشروع كما أشكر القائمين على تنفيذ هذا المشروع بما قدموه من إبداع فني يتناسب مع طبيعة البيئة الإفريقية الحقيقية في عرض المحنطات».
وخلال تجولنا في المتحف رافقتنا هفاف مقدسي ولينا مسوكر – وهما من المشرفات والقائمات على هذا الانجاز المهم - للشرح وتوضيح خطوات العمل حيث تناوبتا الشرح «استلمنا المئات من مقتنيات الصياد الإيبش من حيوانات وطيور نادرة ومر العمل من أجل تجهيز المتحف بمراحل صعبة تضمنت ترميماً وإصلاحاً من الناحية الفنية والصحية والبيئية وبإشراف اختصاصيين وفنانين تشكيليين وتم إعداد المتحف بطابقه العلوي لعرض تلك المقتنيات».
وأضافتا: «تم اعتماد أسلوب الواقع وامتلأت الجدران بنماذج من أوراق وأغصان الأشجار من بيئة المقتنيات بحيث يشعر الزائر وكأنه يدخل في غابات ومجاهل إفريقيا والهند والأمازون كما يسمع مؤثرات صوتية طوال الوقت يشعر معها أنه يتجول فعلاً في هذه الأماكن البعيدة وأن هذه الأصوات تصدر فعلاً عن هذه الحيوانات والطيور مع صوت حفيف الأشجار إضافة لاستخدام إضاءة بشكل علمي وفني تعكس خيال الأشياء المعروضة».
وجهز بهو الطابق السفلي بالكراسي وشاشة عرض لاستقبال الوفود الزائرة حيث يتم عرض فيلم فيديو عن مقتنيات المتحف وعن حياة الصياد الإيبش الذي ضم المتحف أيضاً صوراً نادرة له في رحلات الصيد.
وأوضح القائمون على المتحف في حديثهم لـ«الوطن» أن المتحف يضم 400 حيوان وطير محنط من فصائل نادرة منها رؤوس لزرافات وفهود وأسود ولبوات وغزلان وضباع وجاموس وحمار الوحش ووحيد القرن وثعالب وخرطوم فيل ونابه وذيل كركدن وأذن فيل على شكل طاولة ورؤوس خنازير وسمكات وغيرها من المعروضات.
وعن الجانب الآخر للمتحف وهو القسم الثالث الذي يضم مجموعة من الوسائل التعليمية التي تم جمعها من مدارس دمشق أوضحتا: «بحثنا عما هو علمي ومختبئ في مدارس المدينة، ولعل أهمها كانت ثانوية جودت الهاشمي، ومعهد الباسل، وهذه الآلات لم تعطَ أي أهمية في تلك المدارس»، موضحتين أهمية هذا العمل «بأن يكون لدى الطفل ذاكرة تبقي هذه الوسائل في مخيلته أمراً مهماً، وأن يتعلَّم كيف تطوَّر الإنسان، وكيف نشأ، وأن يتعرَّف إلى أغلب دول العالم وما تمتلكه من ثقافة متحفية أمر مهم أيضاً، وهذا ما نسعى إلى زرعه في عقول أولادنا من خلال هذا المشروع».
جولة في أقسام المتحف ومقتنياته
يقسم المتحف إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول يحتوي على صالة عرض سينمائية يتم استقبال المجموعات الكبيرة من الزوار فيها لأخذ فكرة عن المتحف وموجوداته ويتم عرض فيلم وثائقي (عن الحيوانات أو أفلام وثائقية وعلمية).
أما القسم الثاني من المتحف فيضم مجموعات من الحيوانات المحنطة قدمها الصياد السوري حسين الإيبش من مجموعته التي حصل عليها خلال رحلته إلى إفريقيا والهند بين أعوام 1914 - 1926م إضافة إلى مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي توثق رحلته، ومجموعة من الوثائق الخاصة به ومنها وثائق رياضية لكونه أول من أدخل كرة القدم إلى سورية عام 1905م.
أما بالنسبة للقسم الثالث للمتحف فيضم مجموعة من الوسائل التعليمية التي تم جمعها من مدارس دمشق وتم توزيعها على خمس قاعات وهي عبارة عن:
وسائل تعليمية فيزيائية يعود بعضها لعام 1764م ومجموعة من التجارب الميكانيكية والكهربائية وتجارب السوائل التي تظهر بدايات التطور العلمي وتغطي قروناً من الإنجازات العلمية التي غيرت مجرى التاريخ البشري منها آلة رامسدن التي تعود إلى عام 1764م وهناك مثيل لها في متحف ومعهد تاريخ العلوم في فلورانسا بإيطالية، وصندوق تجارب ضوئية تقدمة وزارة التربية والتعليم في ألمانيا الديمقراطية لمدرسة جودة الهاشمي عام 1960 - 1961م، ومخلية هواء 1849م لها مثيل في متحف التاريخي لولاية أوهايو الأميركية، إضافة إلى أجهزة المساحة وقياس المسافات وأجهزة قياس الزوايا وآلات حاسبة ميكانيكية تعود لعام 1920م، وأجهزة التقطير التي كان يستخدمها الأطباء العرب في استخلاص الزيوت والعقاقير ومجموعة من أنابيب الاختبار الكيميائية المتنوعة، كما يضم هذا القسم أجهزة الاتصالات (الهواتف، أجهزة مورس، الراديو، تلفزيونات) يعود بعضها لبدايات القرن التاسع عشر، وأجهزة المرئيات (المجاهر، التلسكوب، أجهزة الإسقاط، والعدسات المكبرة والفوانيس السحرية) ومجموعة من الكاميرات الخشبية التي تعود لعام 1909م، ومجموعة من آلات العرض السينمائية التي يعود بعضها لعام 1921م، ومجموعة من الموازين المختلفة (القبان، ميزان روماني، ميزان صيدلاني، ميزان رسائل، ومكاييل)، إضافة إلى لوحات خط عربي منها لوحات للخطاط التركي يوسف رسا الذي خطط الجامع الأموي أثناء ترميمه ومحمد بدوي الديراني خطاط بلاد الشام، وسجلات لطلاب ومدرسي مدارس دمشق القديمة (مكتب عنبر، التجهيز الأولى، جودت الهاشمي) وصور لدمشق القديمة مع لوحة لأسماء دمشق عبر التاريخ تقدمة عمر الإيبش، ومجموعة مطبوعات قديمة لجرائد ومجلات وكتب تقدمة المهندس محمد محب الدين. كما يحتوي هذا القسم على مجموعة بيولوجيا من الكائنات الحية والحشرات والهياكل العظمية والنباتات المجففة، ومجموعة جيولوجيا متنوعة من الصخور والمستحثات العالمية، ومجموعة من العينات الجيولوجية المحلية تم جمعها من أنحاء القطر العربي السوري عبر رحلة مؤلفة من فريق عمل مكون من موظفتين هما هفاف مقدسي ولينا مسوكر ومتطوعين هما عمر الإيبش والدكتور محمد غالب سيدا، إضافة إلى مجموعة من العينات التي قدمت هدية من جيولوجيين يشجعون وجود متحف جيولوجي.
أما عن حياة الصياد الشهير حسين الايبش فولد بدمشق في عام 1884 ودرس في مدارسها ثم حصل على الشهادة الجامعية في التجارة من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1906.
وكان من أبرز أبطال رياضات القوى والسباحة في حياته الجامعية واشتهر بأعماله الزراعية الواسعة كما اشتهر بمهارته في الرماية والصيد إذ شغف بصيد الوحوش الكاسرة في مجاهل إفريقيا والهند في رحلات مثيرة دامت 12 عاماً (1914-1926) ونال العشرات من الأوسمة الدولية والمحلية وتوفي في عام 1967.
من مجموعة حسين الإيبش النادرة
من مقتنيات المدارس القديمة
جريدة الوطن / نقلاً تيسير مخول .
[img][/img]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]