ما زالت المباراة المثيرة التي جمعت بين منتخبي «سين .. سين»، أو المنتخبين العربيين السعودي والسوري تشغل اهتمام المتابعين، بعد نتيجتها غير المتوقعة، التي انتهت بخسارة «الأخضر»، وتفاعلاتها المتلاحقة التي أدت إلى إقالة «بيسيرو» مدرب السعودية، ليكون أول الضحايا الذين يتجرعون مرارة احتساء «كأس آسيا»!
.. ومن المؤكد أنه لن يكون آخرهم!
فهذه المباراة تستحق أن توصف بأنها تاريخية، لأنها فعلاً دخلت سجلات التاريخ الكروي الآسيوي، بعد أن سجلت «تاريخيتها» في كل شيء!
فهي تاريخية في نتيجتها، لأنها حققت الفوز الأول للمنتخب السوري على نظيره السعودي منذ عام 1976، بعد سلسلة من الهزائم كان من الممكن أن تحبط العزائم، والتي وصل سقفها إلى «عشر»، كان فيها المنتخب «الأخضر» هو الفريق المغوار صاحب الكلمة الحاسمة الذي لا يشق له غبار!
.. وهي مباراة تاريخية في أحداثها المثيرة، وتفاعلاتها المريرة، التي جعلتنا نحبس أنفاسنا حتى الدقيقة الأخيرة، ليكون بعدها «الفيضان» الذي أغرق مدرب السعودية، مثلما غرقت «جدة» في سيول الأمطار الرعدية الغزيرة، التي ارتفع منسوبها إلى درجة أنها طوقت مخطط «أم الخير» السكني!
وهي تاريخية لأنها جعلت المنتخب السوري يتصدر مجموعته في كأس آسيا بلا منافس، وكأنه يحلق فوق قمة جبل «قاسيون»، ويطل من هناك على عاصمته «الفيحاء» في مشهد بانورامي رائع، يجعلك تلمس من ذلك العلو الشاهق تفاصيل الجمال الذي يعانق عاصمة «الأسد».
ولكل هذا فقد أدمعت الكثير من العيون سواء في «دمشق» أو «الرياض» تعبيراً عن الفرح أو الحزن، وهي تتابع المباراة بكل أحداثها المثيرة.
ويمكن القول إن المنتخب السوري استطاع أن يفتح «باب الحارة» على مصراعيه، ويصل من خلاله إلى شباك المرمى السعودي، ليسجل حلقة من حلقات ذلك المسلسل الجماهيري الذي حقق نجاحاً لافتاً ورواجاً في عالمنا العربي.
كانت شخصيات المسلسل الجماهيري جميعها حاضرة في المباراة، وفي مقدمتهم «ثوار الغوطة»، أما الذين لم يشاركوا فيها فقد كانوا حاضرين في الملعب وسط المدرجات، يشجعون فريقهم السوري، وعلى رأسهم «الزعيم أبو صالح»، و«الشيخ عبدالعليم»، و«الأدعشري»، و«أبو عصام» و«أبو شهاب» و«أبو النار»، و«أبو شاكوش»، حتى «النمس» الذي دائماً يثير المشاكل، كان موجوداً يحمل علم بلاده، ويتولى رئاسة رابطة المشجعين!
.. ومثل أبطال المسلسل، فقد تفنن كل نجم من نجوم المنتخب السوري بإظهار قدراته الفنية، ومهاراته في تجسيد الدور المكلف به.
لقد أبدع السـوريون في تنفيذ أدوارهم بقيادة مدربهم الرومـاني «تيتا أفاليريو» الذي قام بدور «المخرج»، فتألـــــــق حارســـــهم «مصعب بلحوس» وخط دفاعهم، وبقية خطوطهم، فتزايدت حظوظهم لانتزاع نقاط المباراة الثلاث، من فم العملاق الآسيوي، صاحب التاريخ العريض، والأداء المريض!
ولعل أفضل وصف يمكن أن نقوله عن أداء المنتخب السعودي أنه «طاش ما طاش» حيث «طاشت» كرات اللاعبين، وتوترت أعصاب المشجعين، لتنتهي المباراة الرائعة بفوز رائع، بعد أداء أروع للمنتخب السوري.
ولعل ما يميز هذا الفوز التاريخي أنه تحقق بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الخسائر وسلسلة من الإخفاقات السورية أمام المنتخبات السعودية، حتى استطاع «رجال بشار» أن يحملوا «البشرى» إلى جمهورهم السوري.
وبصراحة فإن ما يعجبني في منتخب سوريا أن لاعبيه يمتازون بأدائهم الرجولي، ولا أبالغ عندما أقول البطولي، حيث تشعر أن هناك أحد عشر «أسداً» يزأرون داخل الملعب، ويدافعون بشجاعة عن راية وطنهم، لتبقى عالية خفاقة، و«يستأسدون» أمام منافسهم، فلا يمنحونه فرصة واحدة للنيل منهم، فتشعر أنك تشاهد فريقاً من «الأسود» لا يستسلمون للهزيمة.
والذي يدفعني إلى احترام هذا المنتخب، الذي يتحول إلى كتلة من اللهب عند مواجهة خصومه، أنه ربما يكون أقل الفرق المشاركة حصولاً على المكافآت، وأقلهم في إنفاق المصروفات، وتخصيص الموازنات المعتمدة للمشاركة في البطولات.
.. ومن المؤكد أن «الولاء» للعلم السوري، والحرص على رفعة شأن الوطن، هو السر في ذلك «العطاء» الكروي بكل سخاء.
ولو توقفنا عند أداء «الأسد» السوري عبدالرزاق الحسين، سنجد أنه كان حاضراً في تفاصيل المباراة، التي ترك فيها بصمته، عندما أحرز هدفي فريقه (38، 63) فكان «ليثاً» لا يرحم، وكانت شهيته مفتوحة لالتهام فريسته!
كان الهدفان بطعم «البقلاوة» ومذاق «البرازق» و«زنود الست» التي تشتهر بها سوريا!
.. ووسط ذلك الإبهار السوري والانهيار السعودي، تكاد تسمع وسط المدرجات أصداء حنجرة «صباح فخري»، وهي تصدح «قدك المياس يا عمري» بعد إحراز «عبدالرزاق» هدفه الثاني!
أما الدفاع السوري وحارسه «بلحوس»، فقد كانوا سداً صلباً مثل سد «الفرات»، أو سد «الثورة» الذي يبلغ طوله «4.5» كيلومتر، وارتفاعه أكثر من «60» متراً، ويقع في محافظة «الرقة»، فلم يعرف نجوم «الأخضر» الطرق و«الممرات» التي تسمح لهم باختراقه أو الانسياب منه.
كان السعوديون يعتقدون أن مباراتهم ستكون مجرد «نزهة» للتسوق في «سوق الحميدية»، لشراء «درزن» من «عقال المرعز»، أو مجموعة من «البشوت» الفاخرة، تكون بعدها إطلالة على «شـــارع الــصالحية» أو «باب توما»، ثم الجلوس في أحد المقاهي لتناول «الجراك» أو «الشيشة»!
لكنهم اكتشفوا أن صلابة الدفاع السوري لا تقل عن صلابة أحجار البيوت الدمشقية القديمة، التي عندما تقترب منها تكاد تسمع «موسيقى» نوافيرها، فتشتاق لتروي عطشك برشفة من ماء الزهر المعطر!
.. وفي كل فترة من فترات التفوق أو التألـق الســـوري خــــلال المباراة تشـــم عبق زهور «الياسمين» الدمشقي، الذي طغت رائحته على «الورد الطائفي»!
باختصار .. أستطيع القول إن مباراة سوريا والسعودية كانت أشبه بقصيدة من قصائد «نزار»، لأنها امتازت مثل إبداعات الشاعر «قباني» بالكثير من المعاني.
ويكفي أنها بعد نهايتها أجبرت المنتخب السعودي المرشح للفوز بكأس آسيا الخامسة عشرة على ترديد القصيدة «النزارية» ...
«إني أتنفس تحت الماء» ...
«إني أغرق .. أغرق .. أغرق»!