تميَّزت الأراضي السورية في أرجائها كافة بالأهمية التاريخية، التي جعلتها محطّ أنظار الكثير من المهتمين. وتعدُّ ديرالزور من المناطق المتميزة بالمواقع الأثرية التي لاقت صدى سياحياً إيجابياً. ومدينة ماري أحد أهم الأمثلة التي يمكن أن تتطرح في هذا المجال.
إنَّ ماري تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات، على بعد 11كم شمال غربي بلدة البوكمال قرب الحدود السورية العراقية، وهي محاطة بسور، عدا الجهة المحاذية للنهر التي لم تكن بحاجة إليه.
اكتشفت مدينة ماري عن طريق الصدفة في عام 1933م، عندما كان بعض البدو يحفرون قبراً لأحد موتاهم، وبُدء الحفر في الموقع بإدارة العالم الفرنسي أندريه بارو عام 1933م، واستمرَّ حتى عام 1947م، ثم تابع من بعده جان كلود مارغرون منذ عام 1979م وحتى الآن.
ويسجل التاريخ اهتمام حكام ماري بها في عهود الأكاديين، حيث أدركوا أهمية موقعها الجغرافي على الطريق الممتدة من الشمال إلى الجنوب بمحاذاة نهر الفرات، وفي مكان يعتبر نقطة انطلاق قوافل التجار باتجاه بلاد البحر المتوسط عبر بادية الشام.
من الناحية الجمالية المعمارية، يمكن تسليط الضوء على معبد عشتار، الذي يقع على حافة المدينة الغربية، وكان المعبد متميزاً بمساحة واسعة، وذا نتوءات بارزة تحتوي على منصات لتقديم القرابين.
خصّص المعبد لعشتار آلهة الحب والخصب والحرب في فترة ماقبل سرغون،
وهناك أيضا قصر زمري ليم المكتشف عام 1935م، ويعتبر من أهم القصور في بناء الشرق القديم، وقد ذاعت شهرته منذ الألف الثانية ق.م، وتمنى كثير من الملوك أن يلقوا نظرة عليه، وقال عنه الأب فنسان: “إنه درة الشرق القديم.
الفن في ماري
نحتت التماثيل في ماري بحيوية وواقعية تجاوزت مثيلاتها «الرافدية». ويؤكد الطابع الديني لتلك التماثيل الكتابات التي نقشت عليها، وتحمل أسماء أصحابها والآلهة المهداة إليها. وهذه التماثيل صنعت من الحجر الكلسي المحلي، وقد تمَّ صنع نوعين مختلفين: منها ماهو عام نحت حسب نظام موحد وأنتجه صناع محترفون وباعوه لكلّ راغب ونماذجه متشابهة كثيراً.
أما النوع الثاني، فهو النوع الخاص الذي نحت لأشخاص معينين كالملوك والكهنة والقواد والكتاب والمغنين.
وهناك أنواع تماثيل يصعب فيها التمييز بين الرجال والنساء، لأنها غير ملتحية واللباس فيها موحد، مثل تمثال أورنانشي (أورنينا) الشهير الذي لم يعرف أن كان لمغن أو مغنية؟
كما عثر على العديد من التماثيل النصفية والرؤوس وجذوع التماثيل، وتماثيل زوجية هي الأولى من نوعها في سورية.
تمثال ربة الينبوع من الأمثلة التي تستحقّ الذكر، وقد وجد في القصر الملكي مهشماً جسمه في القاعة 64 ورأسه في القاعة 106. طول التمثال 1،42 سم، وهو مصنوع من الحجر الكلسي الأبيض، وهو يتمثل في امرأة يدلّ على ألوهيتها القرنان اللذان يتوجان رأسها،
وترتدي ثوباً مهدباً يصعّب التعرف على تفاصيلها، وتظهر وكأنها ترتدي رداء داخلياً مغطى بثوب خارجي. ويشاهد على الثوب سمكات صاعدة وهابطة تسبح في مياه تفيض من إناء تمسكه الربة بكلتا يديها. لذلك سمي التمثال بـ(ربة الينبوع)، وتزين معصمها وعنقها وأذنيها الأساور والأطواق والأقراط،
وتتدلى على كتفيها ضفيرتا شعر كثيف، أما عيناها وفمها وأنفها فجميلون، وقد صمّم وجهها برقة وعذوبة نادرة في تاريخ الفن القديم، ويوجد داخل التمثال قناة كان يمرّ فيها الماء من خلالها أثناء الحفلات قادمة من خزان مرتفع، رمزاً لقدرة الإله على جلب الخير والعطاء.
عثر عل العديد من التماثيل البرونزية التي جسدت آلهة أو بشراً، بينها الأسود البرونزية التي كانت تربض على أبواب معبد دجن، وهي تقف منتصبة القامة فاغرة الفاه، جاحظة العينين، تثير في أعماق الداخل إلى المعبد رهبة وخشوعاً.
النحت النافر تواجدت آثاره في ماري، لكن بشكل قليل، وقد عثر على بعض اللوحات الحجرية التي كانت تقدم للآلهة في المعابد، لتبارك أصحابها، ومنها لوحة تمثل وليمة وجدت في معبد عشتار.
من جانب آخر، عثر على العديد من اللوحات التي نفذت مشاهدها بالتطعيم على الأحجار النادرة الملونة، واستخدم في تنفيذ هذه المشاهد الصدف والعاج، على خلفية من القار أو أحجار أخرى مختلفة.
إضافة إلى بعض الموضوعات الدينية، فقد نفذت موضوعات حربية مدنية كالعربة التي يقودها شخصان ويجرها حصانان.
أهم المكتشفات في ماري
السجلات الملكية تعدُّ من أبرز الاكتشافات في ماري، وهي تؤلف مكتبة تضاهي مكاتب نينوى أو تللو أو أوغاريت أو بوغاز كوي.
وبعد اكتشاف ثلاثة تماثيل تحمل كتابات منقوشة في عبد عشتار، أعتقد أنَّ أهل ماري لم يكن لديهم ميل إلى الكتابة.
من ناحية أخرى، وفي 6 من شباط عام 1935م، تمَّ الكشف عن 300 لوحة مسمارية تحت جرة محطمة، وفي عام1935م عثر على 25 ألف لوحة مسمارية في أنحاء القصر الملكي، غير أنها تكدَّست بشكل خاص في القاعتين 115 و108، أو في الخزائن الجدارية أو تراكمت على الأرض.
وأخيراً أكدت المعلومات التي زودنا بها مدير آثار ديرالزور أنَّ لوحات ماري أشبه ماتكون بوثائق وزارة خارجية في القرن19ق.م، وقد أدَّت سجلات ماري إلى تصحيح تاريخ الألف الثاني ق.م.
...........................