المديرالعام رئيس مجلس الإدارة
عدد الرسائل : 4686
| موضوع: وردة في شعر بلقيس الإثنين أغسطس 30, 2010 1:46 am | |
| كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. وكانت تعرف أنّني سوف أقتل.. وقد تحقّقت النبوءتان... سقطت هي، كفراشة، تحت أنقاض الجاهليّة وسقطت أنا.. بين أنياب عصرٍ عربي يفترس القصائد.. وعيون النساء.. ووردة الحرّية..
2
كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. وأنّ أنوثتها لن تشفع لها.. فالأنوثة في هذا الوطن الممتدّ جغرافياً من البشاعة إلى البشاعة.. ومن القذيفة إلى القذيفة ليست سبباً تخفيفياً يحمي الحمائم من الذبح.. ولا تعطي امتيازاً اللأمّهات لكي يكملن ارضاع أطفالهن..
3
كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. فقد كانت جميلة ً في عصر ٍ عربيٍّ قبيح.. وكانت نقيّة ً في عصر ٍ عربيٍّ ملوّث وكانت نبيلة ً في عصر الصعاليك. وكانت لؤلؤة ً نادرة ً بين أكداس اللؤلؤ الصناعي وكانت امرأة ً متفرّدة.. بين أرتال النساء المتشابهات...
4
كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. ففيها تجسّدت حضارة ما بين النهرين ونحن متخلـِّفون.. هي مقامٌ بغدادي رائع.. ونحن لا نسمع.. هي قصيدة ٌ عباسية.. ونحن لا نقرأ.. هي فصلٌ من ملحمة (جلجامش) ونحن أميون.. هي أجمل ما كُتب من شعر.. ونحن أردأ ما كتب من نثر..
5
كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. لأنّ عينيها كانتا صافيتين كنهرين من الزمرّد.. وشعرها كان طويلاً كموالٍ بغدادي فأعصاب هذا الوطن، لا تتحمّل كثافة اللون الأخضر ولا تتحمل رؤية مليون شجرة نخل تتجمع في عيني بلقيس..
6
كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. فكلـّنا -دون استثناءٍ- موضوعون على قائمة الطعام في هذا الوطن الذي احترف أكل مواطنيه.. والغريب.. أنّهم يطالبون قبل أن يأكلونا.. أن نغنّي النشيد الوطني!! ونأخذ التحية العسكرية لرئيس المائدة وللغارسونات الذين يحيطون به.. أي نشيدٍ وطنيّ؟. أي وطن؟.. حين تكون جثّة المواطن العربي مدفونة ً في مكانٍ ما.. بين معدة الحاكم العربي.. وبين مصرانه الغليظ...
7
كنت أعرف أنّها سوف تقتل.. فقد كانت مساحة كبريائها أكبر من مساحة شبه جزيرة العرب وكانت حضارتها لا تسمح لها أن تعيش في عصر الإنحطاط.. وكانت تركيبها الضوئي.. لا يسمح لها أن تعيش في العتمة...
8
كانت تعتقد من شدّة عنفوانها أنّ الكرة الأرضية صغيرة عليها.. ولهذا حزمت حقائبها، وانسحبت على أطراف أصابعها، دون أن تخبر أحداً..
9
لم تكن خائفة أن يقتلها الوطن ولكنّها كانت خائفة على الوطن أن يقتل نفسه..
10
كسحابةٍ حبلى بالشِعر.. نقّطت فوق دفاتري نبيذاً.. وعسلا.. وعصافير.. وياقوتاً أحمر.. ونقّطت فوق مشاعري قلوعاً.. وطيوراً بحريةً وأقمار ياسمين بعد رحيلها، بدأت عصور العطش وانتهى زمن الماء..
11
كان حبّها العراقيّ له طعم الورد.. وطعم الجمر.. وكان إذا فاض في موسم الربيع كسر جميع السدود.. وكسرني عشرين ألف قطعة..
12
أسّست معها في 5 آذار 1962 أول مدرسة للعشق في بغداد وعندما سقطت بلقيس في 15/12/1981 إستقال المعلـّمون والمعلـّمات وهرب التلاميذ وتأجّلت دراسة الحب.. إلى أجلٍ غير مسمى...
13
قبل أن يتركني شعرها الذهبي ويسافر.. لم أكن أعرف أبداً أنّ من بعض هوايات العصافير.. تجميع سبائك الذهب..
14
بعد رحيل بلقيس لن يكبر الشجر ولن يستدير القمر ولن يشتعل الماء...
15
لأن الشعب العربي كان يتمنّى أن يكون حراً كشَعر بلقيس وغير معتقل ٍ بالدبابيس والزنزانات.. والأسلاك الشائكة.. كشعر بلقيس.. فقد أمر السلطان -نصره الله على أعدائه- -وزاد من عدد محظيّاته ونسائه- بإشعال النار في حقول الحنطة.. وقطع رأس كل سنبلة ٍ تتكلم مع سنبلةٍ أخرى والتخلّص من شعر بلقيس الجامح كحصان أشقر.. لأنه يعلّم الناس الطموح ويحرّضهم على الحرية
16
كنت دائماً أحس أنّها ذاهبة.. وكان في عينيها دائماً قلوعٌ تستعد للرحيل.. وطيّاراتٌ جاثمة ٌ على أهدابها تستعد للإقلاع. وفي حقيبة يدها -منذ تزوّجتها- كان هناك جواز سفر.. وتذكرة طيران وتأشيرات دخول إلى بلادٍ لم زرها.. وعندما كنت أسألها: ولماذا تضعين كلّهذه الأوراق في حقيبة يدك؟ كانت تجيب: لأنّني على موعدٍ مع قوس قزح...
17
بعدما سلـّموني حقيبة يدها.. التي عثروا عليها تحت الأنقاض ورأيت جواز السفر.. وتذكرة الطائرة.. وتأشيرات الدخول.. عرفت أني لم أتزوّج بلقيس الراوي وإنّما تزوجت قوس قزح...
18
في الحفلات العامّة.. كانت تتحاشى أن تقف معي.. أو تتصوّر معي.. أو تقول للناس: إنها زوجة الشاعر. أنا الذي كنت أبحث عنها هنا.. وهناك.. وأطلب من المصورين أن يصوروني معها.. حتى أدخل التاريخ..
19
عندما كانت تحضر أمسياتي الشعريّة كانت هي التي تسرق الضوء وأنا الذي أبقى في الظل. لم تكن تطلب رضى الشعر.. كان الشعر هو الذي يطلب رضاها...
20
عندما تموت امرأة جميلة.. تفقد الكرة الأرضيّة توازنها ويعلن القمر الحداد لمئة عام ويصبح الشعر عاطلاً عن العمل..
21
لم تكن تعترف بأوساط الحلول حضورها كان استثنائياً.. وحديثها كان استثنائياً.. وشعرها الذي كان يسافر في كلّ الدنيا.. كان حادثاً استثنائياً.. لذلك.. كان موتها استثنائياً مثلها...
22 تزوّجتني.. رغم أنف القبيلة وسافرت معي.. رغم أنف القبيلة.. وأعطتني زينب وعمر.. رغم أنف القبيلة.. وعندما كنت أسألها: لماذا؟ كانت تأخذني كالطفل إلى صدرها وتتمتم: "لأنك قبيلتي.."
23
كانت خرافيّة الألوان.. كفراشة ورشيقة الطيران.. كفراشة.. وقصيرة العمر.. كفراشة.. وعندما أحرقوها في يوم 15 ديسمبر 1981 قالت إحصاءات الأمم المتحدة إنّنا القبيلة الوحيدة في العالم التي تأكل الفراش..
24
بلقيس الراوي بلقيس الراوي بلقيس الراوي كنت أحبّ إيقاع اسمها.. وأتمسّك برنينه.. وكنت أخاف أن ألصق به كنيتي حتى لا أعكّر ماء البحيرة.. وأشوه روعة السمفونيّة..
25
ما كان لهذه المرأة أن تعيش أكثر.. ولا كانت تتمنّى أن تعيش أكثر فهي من فصيلة الشموع والقناديل وهي كاللّحظة الشعرية لا بدّ لها أن تنفجر قبل آخر السطر.... | |
|