يشكل تأخر سن الزواج والعنوسة مشكلة اجتماعية حقيقية وفق رأي المختصين الاجتماعيين، ويعاني مجتمعنا السوري بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام من تفاقم هذه المشكلة يوماً بعد يوم ، وعلى الرغم من وجود عدة وجهات نظر في تحليل أسباب هذه الأزمة إلا أن أغلب إذا لم يكن كل الآراء مجمعة على أنها مشكلة خطيرة على المجتمع .
يرى الدكتور" جهاد الناقولا " - دكتوراه في علم الاجتماع الأسري ، جامعة دمشق - أن هناك مجموعة من الأسباب التي يمكن اعتبارها رئيسية في تأخر سن الزواج عند الشباب .
وفي حديث لعكس السير ,قال الدكتور " الناقولا " : " تأخر سن الزواج له عدة أسباب، هناك أسباب اقتصادية كغلاء المهور وعدم القدرة على تأمين المسكن إلى جانب انخفاض مستوى الدخل ، و هناك أسباب اجتماعية كتدخل الأهل وفرض آرائهم على الأبناء وخاصة الفتيات، كذلك العرف الاجتماعي حيث يستطيع الشاب خطبة الفتاة التي تعجبه لكن الفتاة لا تستطيع ذلك حسب العادات والتقاليد حيث يكون الشاب صاحب المبادرة للزواج، وهناك أسباب دينية، وأسباب نفسية " .
وعما يقصده بالأسباب النفسية , قال : " هناك بعض الأسباب النفسية تتعلق بالخوف من اختيار الشريك، أو البحث عن شريك بمواصفات خيالية ليست موجودة على أرض الواقع، وتمني الزواج من المشاهير حيث تلعب وسائل الإعلام دوراً مهماً في هذا الأمر وتظهر الشريك بمواصفات من الصعب تحققها " .
ولفت الدكتور " جهاد " النظر إلى أن التعليم للشاب والفتاة يؤثر على تأخر سن الزواج إضافة إلى أن الفتاة أصبحت تحصل على عمل وهذا يؤدي في بعض الحالات لصرف نظرها عن الزواج .
ويرى الدكتور " جهاد " أن العنوسة باتت تشكل مشكلة اجتماعية حقيقية ليس فقط على المجتمع السوري بل المجتمعات العربية كافة، أما عن متوسط سن الزواج فإنه ارتفع في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ ليتجاوز سن 30 عام وصولاً لسن 35 .
ومن المعلوم في مجتمعنا أن الفتاة على وجه الخصوص تقع عليها التبعات للوضع الاجتماعي السائد فهي من ناحية تسعى لإكمال تعليمها ومن ناحية أخرى تتوجس من شبح العنوسة الذي يلوح لها كلما تقدمت في العمر ، وعن تعقيبه على هذه القضية أجاب الدكتور جهاد "يستطيع الإنسان في هذه الحياة أن يقوم بعدة أمور بنفس الوقت فيمكن للفتاة أن تكمل تعليمها وأن تتزوج بنفس الوقت وهناك أمثلة كثيرة لفتيات تزوجن إلى جانب إكمال تعليمهن ولا يعني عندما تتزوج الفتاة أن توقف تعليمها، فنحن نشجع على التعليم إلى جانب الزواج في حال أتت فرصة الزواج" .
ولكن في الواقع هناك ثقافة سائدة في المجتمع مدعومة بكثير من العادات الاجتماعية تجعل الرياح تجري بما لا تشتهي سفن تلك الفتاة، فكثيراً ما تتردد مقولة (البنت آخرتها لزوجها) في الأسماع , عن رأيه بما سبق يقول الدكتور" جهاد " : " يجب أن نعود إلى شخصية الإنسان المبنية على الإرادة، الإنسان يجب أن يعرف ماذا يريد، هل تريد تلك الفتاة الدراسة؟ أم الزواج؟ أم كليهما؟إن كان الزواج فلتتزوج وإن كان التعليم فلتكمل تعليمها وإن أرادت الزواج والتعليم فليكن، أما عن تغيير العادات الاجتماعية التي لا تخدمنا فالحل هو بالتوعية الإعلامية كالتلفاز والإذاعة مع التنويه إلى أن التغيير الاجتماعي لا يحدث بين ليلة وضحاها بل بعد عملية مستمرة من التوعية " .
ولدى سؤاله عن نظرته الحالية لما يقوم به الإعلام وخصوصاً الدراما التلفزيونية وهل يخدم بشكل إيجابي على صعيد التوعية , أجاب " هناك بعض المسلسلات كان لها دور إيجابي بنشر التوعية الاجتماعية ونحن نشجع عليها ولكن تلك المسلسلات لا بد من استضافة مختصين في ندوات للتعليق عليها وتبيان ما هو إيجابي وما هو سلبي بما يخدم المجتمع ويصحح الأفكار لأن هناك أخطاء وأفكار سلبية تربوية قد تكون في المسلسل على شكل هفوات درامية " .
دراسة ميدانية تؤكد تفاقم المشكلة في مدينة دمشق
و زود الدكتور" جهاد "عكس السير بدراسة أكاديمية ميدانية في جامعة دمشق – قسم علم الاجتماع تحت عنوان " العوامل المؤثرة في تأخر سن الزواج عند الشباب وانعكاساته في مدينة دمشق" حيث تناولت الدراسة عينة مقدارها 400 شاب وفتاة ( 200 x 200 ) و كانت النتائج هي :
بالنسبة للشباب الذكور الأسباب الاقتصادية :
- 60 % تأخروا بالزواج بسبب عدم القدرة على تأمين المنزل
- 11.5 % تأخروا بسبب ارتفاع تكاليف الزواج ومتطلباته
- 10.5 % تأخروا بسبب قلة الدخل الشهري
أما بالنسبة للفتيات فكان للعائق الاقتصادي عند الذكور سبب في تأخير زواجهن وكانت النسبة لهن بسبب هذا العائق 17 %
وبشكل عام فإن المؤشرات تدل على أن أسباب تأخر سن الزواج بالنسبة للذكور هي ثلاثة أنواع
1- أسباب مادية وتحتل المرتبة الأولى في إعاقة الزواج للذكور الذين يشكلون نسبة 71.5 %
2- أسباب اجتماعية 17.5%
3- أسباب صحية 5.5 %
أما الفتيات فإن الأسباب بالنسبة لهن كانت :
1- أسباب اجتماعية تحتل المرتبة الأولى 46 %
2- أسباب مادية 35 %
3- أسباب نفسية 13 %
أما عن الوسائل المجدية للخروج من هذه الأزمة فيرى الدكتور " جهاد" أنه يجب على الأهل أن يتفهموا حاجات الشباب وأن يكون هناك حوار بين الأهل والأبناء إضافة إلى وجود تربية الاعتماد على الذات لدى الشباب، ووجود قروض ميسرة للشباب تساعدهم على الزواج، وتأمين سكن شبابي ميسر، مع أهمية أن يأخذ الإعلام دوره السليم في التوعية وإزالة مظاهر البذخ والتعقيدات في الزواج .
أما" بسام القاضي " مدير مرصد نساء سوريا الذي تحدث لنا عن أهمية وضع معيار للحديث عن تأخر سن الزواج و حساب القيمة الحدية التي يعبر تجاوزها عن مشكلة تأخر سن الزواج وذلك بناءً على مجمل الوضع العام في المجتمع، فنحن لدينا حالياً نسبة كبيرة من الفتيات يصلن إلى التعليم العالي ونسبة جيدة منهن يجدن فرصة عمل ، إضافة إلى انعدام التوعية المتعلقة بالثقافة الجنسية والصحة وبناء الأسرة.
ويرى" القاضي " أن هذه الأمور هي اعتبارات أساسية في قضية الحديث عن تأخر سن الزواج، ولذلك فبناء الأسرة بالإضافة إلى اختيار الشكل المناسب لتنشئة الأطفال وتربيتهم كل ذلك يتطلب وعياً بمعنى النضج الاجتماعي والنفسي إضافة إلى النضج الجسدي الذي أصبح يتأخر بالمقارنة مع الأزمان الماضية، وبناء على ذلك فأي حديث عن زواج متأخر بالنسبة للمرأة حسب وجهة نظره هي حكماً فوق 28 سنة وأقل من ذلك لا يمكن الحديث عن تأخر سن زواج .
ويقرر " القاضي " أن تأخر سن الزواج يمثل مشكلة اجتماعية ويتمثل جزء من مسبباتها العامل الاقتصادي وانعدام الترويج لمفهوم الأسرة الصحيح إضافة إلى انعدام مصادر التوعية والثقافة الجنسية السليمة وذلك لأن النظرة المجتمعية السائدة للحديث عن هذا الموضوع يمثل تابو لا يجوز الاقتراب منه.
وحول مفهوم التكافل الاجتماعي تحدث " القاضي " عن أنه لم يعد موجوداً في هذه الأيام إلا بأشكال مشوهة لا تفيد أبداً في تجاوز المشكلات، فالحياة الحالية أصبحت معقدة وتتطلب منا إحداث أشكال جديدة للتكافل الاجتماعي بما يتناسب مع هذا التعقيد .
أما عن الحلول اللازمة لتجاوز مشكلة العنوسة وتأخر سن الزواج فتساءل " القاضي " عن كيفية التفكير بحلول بدون وجود دراسات إحصائية دقيقة تشخص المشكلة، فلا يوجد عندنا إحصائيات دقيقة وهذه المسؤولية حسب وجهة نظره تتحملها الحكومة لأن هذه الدراسات مكلفة مادياً بشكل كبير وتحتاج إلى كادر مدرب وأخصائيين، ويضيف القاضي " أنا شخصياً لا أستطيع طرح حل بدون وجود دراسة دقيقة إحصائية فنحن نتحدث عن بلد عدد سكانه 24 مليون " .
وللإطلاع على وجهة نظر الدين الإسلامي حول مشكلة تأخر سن الزواج والعنوسة التقى عكس السير الدكتور أسامة الحموي - الأستاذ في قسم الفقه الإسلامي بكلية الشريعة و الحقوق، جامعة دمشق- حيث تحدث قائلاً : " ندب الإسلام للزواج فالله خلق الرجل للمرأة وخلق المرأة للرجل ونظم العلاقة بينهما عن طريق الزواج وهو الوسيلة الوحيدة التي تضمن للمرأة كرامتها وعفافها والذي يؤدي لقيام أسرة وتربية أطفال وتستطيع المرأة من خلاله أن تشبع عاطفتها كزوجة وأم" .
وأضاف الدكتور " الحموي : " حارب الإسلام العنوسة فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة من سنن المرسلين : النكاح والسواك والطيب والحناء ... وورد حديث عن الرسول : شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم ... وترك الزواج عن عمد مكروه شرعاً وهذا ليس من الدين وهو تنطع وتشدد وقد قال الرسول : هلك المتنطعون... والإسلام حث على الزواج لدرجة أنه جعل الزواج عبادة فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام : إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا هم العيال " .
وفي رده عن العادات الاجتماعية السائدة والتي تمنع الفتاة عن التصريح بطلب الشاب الذي ترغبه زوجاً لها بذريعة العيب مع أن الإسلام لا يمنع ذلك بدليل ما فعلته السيدة خديجة عندما خطبت الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أجاب الدكتور" الحموي " قائلاً " قبل أن أجيب على هذا السؤال أولاً العادات ليست ديناً، وليست كل الأعراف حجة فالإسلام حاكم على الأعراف وليست الأعراف حاكمة على الدين والشريعة، فالأعراف شيء والدين شيء آخر فإذا تصادمت الأعراف مع قواعد الدين والشريعة فهي أعراف فاسدة ومردودة ..." .
وأردف الدكتور " الحموي " : " كثير من العادات هي عادات فاسدة تخالف الدين ومنها هذا العرف، الدين عكس ذلك تماماً، الأصل أن تكون الفتاة هي المطلوبة لغلبة الحياء عليها وحتى تكون في مأمن من صيادي الأعراض ورجال السوء، لكن الإسلام يستحب لولي الفتاة أن يخطب لفتاته وهذا ليس عيباً في الدين بل هو مستحب , طالما أن الأسلوب مؤدب ضمن ضوابط الشريعة فلا مانع أن تخطب الفتاة الشاب، تخطبه عن طريق وليها " .
أما عن الطريقة لنشر هذه الثقافة في المجتمع , قال الدكتور الحموي " هذه الثقافة تنشر عن طريق المنابر والوعاظ والمحاضرات في المراكز الثقافية والمقالات وهذا نحن ننشره ".
واستدرك الدكتور الحموي قائلاً " لكن لا يفهم من هذا الكلام أن نترك الحبل على الغارب للفتاة وأن تقوم بعلاقات مع الشباب خارج المنزل بحجة أنها تبحث عن زوج وأن تسلك طريقاً غير مأمون يؤذيها وتقع فيما لا تحمد عقباه فهذا كله مصائد للشيطان لا تقرها الشريعة، أما ما تحدثنا عنه مما تستحبه الشريعة من خطبة الفتاة أو وليها للشاب فكله عبر ضوابط وأخلاق الشريعة ".
وحول قضية زواج الشاب من فتاة أكبر منه سناً والعادات الاجتماعية التي تمنع ذلك تحدث الدكتور الحموي قائلاً " هي ثقافة مجتمع وأعراف ونحن ذكرنا أن الأعراف عندما تخالف الشريعة فهي أعراف فاسدة، يجوز مطلقاً للشاب أن يتزوج أصغر منه أو أكبر منه سناً وهذا عائد للتراضي بين الطرفين، ويحدث أن من الشباب قد يتزوج من تساويه في السن أو من هي أكبر منه سناً لكن غالب العرف أن الشاب لا يتزوج إلا من هي أصغر منه سناً وهذا عرف لا مانع منه لأنه معلوم أن الفتاة تشيخ وتكبر بسبب الحمل والولادة أسرع من الشاب ، ولذلك يكون فارق السن أفضل حتى لا تكثر حوادث الطلاق لأنهما عندما يكونان متقاربين في السن أو هي أكبر منه قد يدعوه أن يطلقها أو يتزوج عليها عندما تكبر، وعلى كل حال الإسلام لا يمنع أن يتزوج الشاب ممن تساويه سناً أو أكبر منه سناً ".
وفي رده عن أفضلية تشجيع الزواج من الفتاة الأكبر سناً أو المساوية في السن لحل أزمة العنوسة قال " الإسلام حل مشكلة العنوسة بوسائل كثيرة منها الزواج من ثانية بشرطي العدل والنفقة وإلا كان التعدد حراماً، وهذا حل شرعي ذكرته الشريعة ضمن أحكامها " .
وعن الجمعيات الخيرية المعنية بتزويج الشباب كصندوق المودة والرحمة وجمعية إعفاف تحدث الدكتور " الحموي " قائلاً " هذه التجربة عظيمة يشجعها الإسلام ولو عممناها فسنحل مشكلة اجتماعية خيرة جداً وهي بالفعل مشكلة باتت تؤرق المسؤولين في معظم البلاد وتعميمها يتم عن طريق تعديل الأنظمة الداخلية للجمعيات المشهورة قانوناً في بلادنا ونجعل من جملة نشاطها إعانة العزاب على الزواج وهناك تجربة رائدة في القطر العربي السوري هي الأعراس الجماعية تمولها الجمعيات الخيرية بين الحين والآخر ولو عممت هذه التجربة وجعلت نشاطاً للجمعيات الخيرية لحللنا مشكلة اجتماعية كبيرة ".