--------------------------------------------------------------------------------
الموظف الحكومي السوري أعلى دخلاً من أمثاله الأوروبيين والأمريكيين
14 ساعة عمل فعلية مقابل 15 ألف ليرة متوسط راتب.. وحسابات النسبة والتناسب تؤكد!!.
لعلّ القول: إن دخل الموظف الحكومي في سورية، أعلى من نظيره في أوروبا وأمريكا، ليس خروجاً عن الموضوعية، ونؤكد أن هذا الزعم ذو نصيب وافٍ من الدقة رغم حجم المبالغة التي سيعتقد كثيرون أنها الحقيقة الوحيدة أو الأبرز في وجهة نظر كهذه.
ليس في الحكاية ألغاز ولا أحاجٍ، بل في معادلات النسبة والتناسب ما يتكفل بجلاء الإبهام عن الفكرة، والموضوع يرتبط هنا بثلاثية الترهل المزمن التي تغلّف أداء موظفنا الحكومي، وهي ثقافة العمل، وفائض العمالة، وزمن العمل الفعلي الذي يؤديه موظفنا، فالبحث في هذه العناصر وربط خيوطها بعضها مع بعض، سيفضي إلى النتيجة التي أعلناها أعلاه، بشرط أن نمتلك جرأة الاعتراف بالحقيقة، ونبتعد عن المكابرة وتضليل الذات، ونتيقّن أننا لسنا بصدد إصدار قرار بخفض الرواتب والأجور، أي سنؤثر على أرزاق موظف الحكومة، بل هو مجرد تفكير بصوت عالٍ، وما أحوجنا إلى مثل هذا التفكير بين الحين والآخر، بل في معظم الأحيان.
بلا مجاملة
بالفعل تغص سوقنا حالياً بمفارقات صعبة الفهم، وخصوصاً ما يتعلق منها بمفهوم العمل وسوقه قاطبة، أي حكايا الفائض والبطالة المقنعة، والراتب المقطوع والفروقات الكبيرة مع الراتب المقبوض، ثم الفروقات بين دخول العاملين في القطاع العام والقطاع الخاص، وهل ستكون فروقاً إذاما كانت الحسابات مرتبطة بجردات يومية لحجم الأعمال المقدمة أو المنجزة؟.
كل هذه المسائل هي عبارة عن تفاصيل لا يظهر منها على الواجهة إلا شيء واحد فقط، وهو أقاويل وأحاديث على شكل «نق» من تواضع دخل الموظف الحكومي، وهذه هي المشكلة والفجوة التي لم تُردم بعد، بين فهم الموظف العاطفي المتطلب، وفهم المخططين وأصحاب القرار المرغمين على توخي معدلات عالية من الموضوعية في المعالجة بحكم مسؤولياتهم.
وبين الموضوعية والعاطفة مسافة تشبه المسافة التي بين الخطين المستقيمين اللذين لا يلتقيان مطلقاً!!.
ونعود الآن إلى محاولة برهنة الفرضية التي انطلقنا منها بداية، وهي أن دخل الموظف الحكومي السوري أعلى من مثيله في أوروبا وأميركا.
فنحن غالباً ما نطالع وبشيء من الحسرة تلك التقارير التي تتحدث عن دخل الفرد السنوي في هذا البلد أو ذاك، وبعضنا يتحسر على الفرق بين الـ 2000 أو الـ 1500 دولار كمتوسط دخل في سوقنا، وبين الـ 10آلاف أو 15 ألف دولار كمتوسط سنوي لدخل موظف في بلد عربي أو أوروبي، ولماذا الابتعاد كثيراً ففي سوقنا بات من الممكن رصد مفارقات كهذه.
لكن بكل تأكيد كنا سنتنفس الصعداء ونشكر الحظ، لو كانت المقارنة ليست بمتوسط الدخل، بل بين عدد ساعات العمل الفعلية التي يقضيها الموظف الحكومي لدينا يومياً، وعددها بالنسبة للموظف الأوروبي والأمريكي أو حتى السوري في شركات القطاع الخاص وهي 8 - 9 ساعات من العمل المتواصل، ما دفع بعض من جرّب وعاد إلى أحضان الوظيفة الحكومية، إلى القول: إن يوم العمل هناك يساوي دهراً!!.
بالورقة والقلم
لقد تحدثت إحدى الدراسات التي أجرتها جهة دولية «معتبرة» عن القطاع العام السوري بما يشبه «النكتة»، وذلك عندما ارتفعت وتائر الأحاديث والعمل على خط الإصلاح الإداري، وتمت الاستعانة بأكثر من فريق من جنسيات أجنبية مختلفة.
النكتة أو المفاجأة كانت أن الزمن الذي يقضيه الموظف الحكومي لدينا في العمل الفعلي يومياً لا يتجاوز - من حيث المتوسط طبعاً - 38 دقيقة ونكرر لمن لم يسمع بأخبار هذه الدراسة: 38 دقيقة فقط!!.
هي دراسة، ولا نعتقد أننا بحاجة لها لنتأكد من حقيقة تواضع نسب الفعالية والإنجاز اليومي لموظفنا، وكما أن البعض سيقول إن الكثير من الموظفين يعملون أكثر من ذلك بكثير، لكن يمكن لأي كان أن يقول بالمقابل: إن الكثير من الموظفين يعملون يومياً أقل من ذلك، وربما لا يعملون مطلقاً، وبالمناسبة لا نعني هنا الموظفين الذين يحظون بسمة «مفيِّش» أي لا علاقة لهم بالدوام ويزورون مؤسساتهم كأي مراجع وغالباً في أول كل شهر لقبض الراتب، بل ليسوا بحاجة للزيارة بعد توطين الرواتب في الصرافات الآلية.
دعونا من الاستثناءات ولنبقَ في الـ 38 دقيقة وما يقابلها من أجر وخدمات، فإذا كان متوسط عمل الموظف 38 دقيقة فهذا يعني أن عدد ساعات عمله في الشهر هو حصيلة 38 دقيقة ضرب 22 يوم عمل = 836 دقيقة وبالساعات 836 تقسيم 60 = 13.9 ساعة. أي بالمتوسط يعمل موظفنا 13.9 ساعة في الشهر ويتقاضى مقابلها مرتبه الذي يتراوح حسب الفئات والقدم بين 8 آلاف ليرة و20 ألف ليرة، وأذا أردنا الموضوعية فلنتحدث عن متوسط الرقم وهو 14 ألف ليرة سورية مقابل أقل من 14 ساعة عمل، أي كل ساعة بألف ليرة وأكثر بقليل.
أما بالمقارنة مع من نقارن معهم في أوروبا أو هنا في مؤسسات القطاع الخاص، فيجب أن نتأكد أن الموظف الذي يعمل 8 ساعات يؤدي عمله في الـ 8 ساعات كاملة، وإلا فلن تكون ثمة حاجة إليه، ويلفظ خارج مؤسسته، وإذا ضربنا الـ 8 ساعات بـ 22 يوم عمل تكون النتيجة 50 ألف تقسيم 176 ساعة وإذا قسمنا الرقم على ألف دولار متوسط الدخل خارج الدوائر الحكومية وسنفترض أن الألف دولار تساوي 50 ألف ليرة سورية وليس 47 كما هو الواقع، تكون النتيجة 50 ألف تقسيم 176 ساعة والناتج 285 ليرة، أي ساعة العمل الحكومية بأجر ألف ليرة، وساعة العمل في القطاع الخاص بـ 285 ليرة، ولو لجأنا إلى القياس مع بدلات القطاع الخاص وفق ذات المتوسط المحسوب (50 ألفاً) لكان علينا نظرياً أن نفترض أن دخل الموظف الحكومي يساوي أكثر من 3 أضعاف نظيره الخاص أي 150 ألف ليرة.
ولنتذكر أننا نقارن مع موظف بدخل 50 ألف وليس 200 أو 300 ألف ليرة شهرياً، ولم نتطرق إلى عامل الخبرة والكفاءة، لأن الفروقات شاسعة في هذا الجانب ولا تسمح بالمقارنة، مع الاعتراف ببعض الاستثناءات.
في ضيافة القطاع العام
ما قدمناه ليس حسماً، بل عملية حسابية بسيطة لتقريب الصورة أكثر أمامنا ونحن نتحدث عن إشكالية الرواتب والأجور، ولا بد من لفت الانتباه إلى أننا نعي أن بعض موظفي القطاع العام- وهم قلّة - يعملون 8 ساعات في اليوم لكن بالمقابل من لا يعملون مطلقاً هم كُثر.
على الطرف الآخر من المعادلة علينا أن نرصد جيداً الآثار والتكاليف التي تتكبدها مؤسساتنا ممن لا يعملون أو يعملون فقط 38 دقيقة أو ساعتين أو ربع ساعة.
فهؤلاء يتسببون بالتشويش على من يعمل، هذا أولاً، ويستهلكون نفقات أكثر على حفلات الشاي والمتة والقهوة وتجمعات الفطور الصباحي، والمكالمات الهاتفية المجانية، واللهو على الانترنت مجاناً- على حساب المؤسسة التي تحتضنهم - وغير ذلك من الحسابات التي تبدو «غلاظة وكثرة غلبة» لمن يجاهر بها، وفوق كل ذلك على المؤسسة أن تقوم بتأمين تنقلات هؤلاء مع بداية الدوام ونهايته، ثم أثناء الدوام إن لزم لقضاء حاجة خاصة أحياناً!!.
وهذه وقائع لانعتقد أنه بإمكاننا رصد مثلها لا في «الخاص» المحلي ولا في دول أوروبا وأمريكا، حيث تبدو مغادرة مكان العمل ، احتمالاً شبه مستحيل الحدوث.
رأي ورأي آخر
نحن على يقين أن طرحاً كهذا سيلاقي تهماً بضعف موضوعيته والسبب أننا نتحدث عن بطالة مقنعة، لا يتحمل مسؤوليتها الموظف الحكومي. لكن الحقائق غير ذلك، فموظفنا الحكومي يتسم على الأغلب بثقافة عمل مترهلة، فهو لا يحب العمل، ويتأفف من المهام اليومية الموكلة إليه، وهواة «المهيصة» كثر في مؤسساتنا، هذا من جانب .
أما من الجانب الآخر فعلينا أن نقيس مدى كفاءة موظفنا الحكومي لجهة الدقة في العمل، والسرعة في الإنجاز، والإحساس بالمسؤولية تجاه ما يعمل، وهذه المؤشرات بالغة الأهمية، ونعتقد أن نتائج القياس بوساطتها لن تكون في مصلحة من يرغب في الدفاع عن براءة الموظف وإخلاء مسؤوليته من موضوع البطالة المقنعة، أو بعض الموظفين - وليسوا قلّة - ممن بدوا تماماً ميؤوساً من إصلاحهم أو تأهيلهم، كما بعض المؤسسات الخاسرة التي يعملون فيها.
حتى بعض المؤهلين جيداً ، ممن قُبلوا في المؤسسات الخاصة بعد خضوعهم لاختبارات أثبتت أهليتهم وخبرتهم، عادوا إلى مؤسساتهم الحكومية متنازلين عن إغراء الراتب الجيد، بسبب عدم قدرتهم على الالتزام بالعمل 8 ساعات كاملة يومياً، وفضلوا الـ 15 ألف ليرة على الـ 50 والـ 60 ألف شهرياً، لأن عملهم في مؤسساتهم عبارة عن تسلية و«تقطيع وقت»، وقد تذرع بعض العائدين من « الخاص» بدسك الرقبة والمناقير وآلام العمود الفقري والرأس والعيون جراء الجلوس الطويل خلف الطاولات وأجهزة الحاسوب.
باختصار، في الأمر الكثير من المفارقات وفي علاقة الموظف الحكومي مفارقات أكثر، وثمة فجوة بين أداء الموظف الحكومي وما يطالب به من دخل شهري، وعلينا أن نحسم إن كان علينا أن نتحدث عن مساعدات أم رواتب وبدلات عمل حقيقية، فبين المفهومين مسافة تقدر بالأميال وليس بالسنتيمترات.
البعث ميديا