شريعة حمورابي تكرم المرأة وتحرر العبيد
أن تنظيم القوانين العراقية القديمة وبالأخص شريعة حمورابي قبل أربعة آلاف سنة حقوق المرأة وتحريرالعبيد كان خطوةً متقدمةً غيرت لأول مرة الفكر الأنساني في وقت كانت فيه المجتمعات الانسانية في أطوار نموها الأولى وظل التقليل من شأن المرأة والرق من الأمور السائدة لعدة عصور حتى ظهور الشرائع السماوية التي جعلت الدعوة الى الحرية الإنسانية من أولوياتها.
وكلنا نؤمن بأن الدعوة الى تكريم المرأة وتحرير العبيد تعتبر من أهم مظاهر المجتمع المتحضر, وهذا ما تحث عليه كل الأديان, ومن فضل الأسلام على البشر أنه جعل إكرام المرأة وفك الرقبة من أعظم القربات لله ورسوله. ولذلك فقد كان لأحكام تنظيم حقوق المرأة وتحريرالعبيد في القوانين العراقية القديمة فضل السبق في المعاملة الإنسانية للمرأة والرقيق, ومرحلة متطورة في تاريخ البشرية, وهذا ما يدعوالعراقيين بحق الى الفخر وأن يكونوا بمستوى حضارتهم العريقة وفي مقدمة الداعين للحرية ودعم حقوق الإنسان.
نحن بحاجة ماسة في هذه المرحلة التاريخية التي إبتعدنا فيها كثيراًعن سيادة القانون الى كل ما يذكرنا بأننا ورثة أقدم الحضارات المتميزة وأولى القوانين المدونة في العالم. وهذا يعطينا دفعة معنوية ويدعونا الى توحيد صفوفنا وحل خلافاتنا وجعل الحرية الإنسانية في مقدمة أهدافنا. ومن هنا يأتي دورشريعة حمورابي وأهمية التحدث عن الأحكام المتطورة فيها من منظور العصر والمنطق الحديث.
ومن المناسب أن نشير في البداية الى أن الملك حمورابي كان قد تقلد العرش عام 1792 قبل الميلاد, وفي بحر عشرين سنة فقط استطاع أن يجعل ممالك بلاد الرافدين كلها موحدة. وعندما إستقر الأمر له على الجانبين العسكري والسياسي عمد الى ترصين شئون مملكته المترامية الأطراف, فأصدر شريعته لفرض النظام ونشر العدالة في البلاد. وقد أدرك مبكراً أن سلطة القانون هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة, وأن العدل أساس الملك.
وإحتوت شريعة حمورابي على نواحي مختلفة من الحياة مدنية وجزائية, مثل أحكام البيع والإجارة والمداينة والرهن, وعقوبات الجرائم. كما أنها تضم جوانب من قانون الأحوال الشخصية ونظام الأسرة, وأحكام التجارة. وكان ذلك بداية لنهضة حضارية للبشرية ولارساء قاعدة التقنين من قبل السلطة العليا في البلاد. وبدأنا نرى القوانين في آثار حضارات ماني وفارس والمدن اليونانية وبلاد الرومان وما تبعها من الحضارات الأخرى ولحد هذا الزمان.
وتأتي النصوص المتعلقة بالحرية الإنسانية وتحرير العبيد في مقدمة الأحكام المميزة في شريعة حمورابي والتي تثير الأهتمام لكونها من الشواهد على العدالة في التشريع والرقي الحضاري في روح القوانين العراقية القديمة والتي وردت فيها كلمة " الحرية " لاول مرة في تاريخ البشرية كما أكدت ذلك إصلاحات اوروكوجينا حاكم مدينة لجش. بل أن بعضها لم تتوصل لها المجتمعات المتقدمة إلا قبل زمن قريب أو ما زالت تسعى جماعات بشرية لنيلها الى يومنا الحاضر.
وهذا ما نلمسه في العديد من مواد شريعة حمورابي البالغ مجموعها 282 مادة, فقد توسعت في أساليب حقوق الإنسان وتعتبرأحكام الأسرة وحقوق المرأة نموذجاً متطوراً في هذا الشأن والتي تؤكد على أن الرجل لم يعد الحاكم المطلق في اسرته, فقد أصبح لأول مرة خاضعاً لرقابة قضائية.
واعطيت الزوجة حقوقاً عديدة بعضها لم تنلها المرأة الغربية إلا بعد عهود طويلة من الزمن. ومن ذلك حق الزوجة في طلب الطلاق من زوجها, وحق الزوجة في التجارة وتملك المال, بينما كانت معظم الشرائع في الحضارات القديمة كالفارسية والهندية واليونانية والرومانية القديمة تقلل من شأن المرأة وتهدر انسانيتها.
ومن الجدير بالذكر أن حق الزوجة في تملك المال, الذي هو مثيل لما نطلق عليه في مصطلحاتنا الحديثة "استقلال الذمة المالية للزوجة", هو حق لم تحصل عليه المرأة الأوربية إلا قبل وقت قريب وبعد سنوات طويلة المطالبة والنضال. حتى أن وثائق حقوق الإنسان التي صدرت إثر الثورة الفرنسية لم تتطرق إلى هذا الحق ولا حتى مدونة نابليون للقانون المدني التي لم تقر ذلك إلا بعد التعديل الذي حصل في سنة 1936.
ومن الأحكام المميزة الأخرى في شريعة حمورابي والتي تثير إهتمام الداعين الى تكريم المرأة ما نصت عليه المادة 148 من أنه " ليس للزوج أن يطلق زوجته المريضة بل عليه أن يعيلها طالما هي على قيد الحياة ولكن له أن يتزوج بأمرأة أخرى ". وهذا النص له معاني إنسانية راقية, ويؤكد مكانة المرأة في ذلك العصر ومدى الحرص على صيانة حقوقها.
وتوسعت دائرة الأحكام التي تهدف الى تكريم المرأة وحمايتها من الأطماع ولم يتردد التشريع من إدانة الرجل الذي يتعدى على حقوق النساء, من ذلك المادة 154 التي نصت على عقوبة للرجل الذي يبتذل إبنته ويعاشرها بالطرد من المدينة, رغم العقلية القديمة المتحيزة للرجل.
أن الأرقام الطينية المدونة بالكتابة المسمارية التي عثر عليها في بلاد الأنضول القديمة كمنطقة كانيش قبل فترة ليست بعيدة والتي تمثل رسائل التجار القادمين من بابل وآشور والتي كتبوها الى زوجاتهم أو عقود زواج أو وصايا, تكشف لنا المكانة التي كانت تحظى بها المرأة والعائلة في ذلك الوقت مقارنة بالمجتمعات القديمة بل حتى مقارنة مع بعض الأحكام في عصرنا الحاضر.
وهذا ما أكدت عليه حديثاً بريجيت ليون الأستاذة في جامعة السوربون التي أشارت الى انه كانت هناك نساء يتفاوضن ويتعاقدن مع التجار أو يمارسن العمل التجاري أو المحاسبة, ويمتلكن روؤس أموال خاصة بهن ويتمتعن أحياناً بامتيازات أكثر من الرجل, هذا فضلاً عن تأثيرهن المتزايد داخل العائلة وبلوغ بعضهن مرتبة رئيس عائلة عند غياب الزوج.
وبالرغم من أن شريعة حمورابي تفيد بأن المجتمع كان يقوم على فوارق طبقية تأثراً بمعتقدات ذلك العصر, إلا أن حالة العبيد لم تكن ميئوساً منها, بل بالعكس أن هذه الشريعة تضمنت كثيراَ من الأحكام التي تُخفَف من الحالة القاسية للعبيد وتُوسع من أساليب عتقهم, وكان من الممكن فك رقابهم أو تبنيهم , في وقت كانت فيه المجتمعات الانسانية تعيش في ظلام وجهل وكان التمايز الطبقي الحاد هو السائد. وكانت بعض هذه الأحكام تقترب وبصورة تلفت الأنظار من تصورنا الحديث للعدالة, وهي تعتبر من أعظم الإنجازات الحضارية التي قدمها سكان بلاد الرافدين للإنسانية.
ومن النصوص المتميزة في هذا الشأن والتي تثير الأعجاب النص الذي بموجبه يحق للعبد أن يتزوج امرأة حرة ويكون أبناؤهما أحراراً, فيرثون الحرية عن أمهم ولا يرثون العبودية عن أَبيهم . فقد نصت المادة 175 التي تدوعونا للفخر على أنه: يحق للعبد أن يتزوج امرأة حرة ويكون أبناؤهما أحراراً.
وفي هذا النص معاني إنسانية عديدة منها إنصاف العبيد الذين كانوا من أسرى الحرب أو من بين الأحرارالذين أفلسوا واعطائهم حق الإقتران ببنات من طبقة الأحرار, كما يعني النص عدم حق صاحب العبد في المطالبة بأن يكون أبناء عبده من السيدة الحرة عبيداً له, حيث أنهم يولدون أحراراً . وهذه خطوة جريئة نحو تحرير العبيد ومرونة التعامل معهم في الوقت الذي كان التمايز الطبقي هو السائد.
إن إعطاء الحق للمرأة الحرة المتزوجة من عبد في منح الحرية لإبنائها يشابه حق المرأة المتزوجة من أجنبي في هذا العصر في منح جنسيتها لاطفالها,وهو حق لم تحصل عليه النساء لحد الان في الكثير من المجتمعات البشرية, ومنها عديد من الدول العربية وما زالت الجمعيات الأهلية فيها تواصل حملتها لتغيير قوانين الجنسية للسماح للمرأة في منح جنسيتها لأطفالها إسوة بما تم حديثاً في مصر وتونس حيث تغيرت قوانينها لإعطاء المرأة هذا الحق.
وهنا يمكن أن نذكر حقيقة أساسية، وهي أن شريعة حمورابي قد سبقت الحضارات القديمة التي قامت بشكل أو بآخر على أكتاف الرقيق، وكانت الثروات الطائلة التي يجمعها أفراد مهيمنون لا تتم في الغالب إلا عن طريق الاسترقاق والقسوة التي تخلو من الشعور بالإنسانية تجاه الآخرين.
ومن المعلوم بأن الأنظمة الأجتماعية في العالم القديم كانت قد اذاقت العبيد صنوف العذاب وألوان التنكيل بما لايطاق فيضطرون الى التمرد. واذا كانت قد حصلت بعض الإصلاحات في مراحل معينة من العهود السابقة,
لكن نظام الأسترقاق قد ظلّ قائماً وبقي سوء معاملة العبيد هو السائد. فالرِّقُّ كان نظاماً شائعاً في اليونان، وكان أهل (أسبرطة) قُساة في معاملة أرقّائهم، حتى أنّ عددهم إذا زاد عند سيِّدهم من الأسرى، كان من حقّه أن يقتلهم ولا يُبقي إلا على من يحتاج إليهم. وكان فلاسفة اليونان، ومنهم أفلاطون وأرسطو، قد أقرّوا الرق وعدّوه ضروريًّا، ونظروا إلى الرقيق على أنهم صنف خسيس من البشر، خلقهم الله ليكونوا عبيداً.
وجاء القانون الروماني وأباح الاسترقاق، كما أباح للدائن أن يستولي على مدينه، وأن يسترقّه إذا كانت أملاكه لا تفي بالدين. كذلك جرى الفُرس على نظام الاسترقاق، وأباحوا للسيد أن يُعذِّب عبده، أو يقتله إذا هفا للمرة الثانية.
ثم جاءت المسيحية؛ فأقرّت الرِّقّ، ولكنها حثت على حسن معاملتهم واوصت من جهة أخرى الأرقّاء بالصبر. و كان الرِّق عند العرب قبل الإسلام نظاماً متعارفاً عليه، وكان مصدره الأسر، وكان العرب يستخدمون العبيد في الأعمال، ويبيعونهم، ويتزوجون السبايا بغير صَداق، ويستولدونهن. وبالرغم من أن القرآن لم يلغ الرق إلا أنه أكد على مكانة العبيد في المجتمع وتوسع في أساليب عتقهم.
أن تشريع حمورابي لم يلغ الرقيق الذي ظل شائعاً لغاية وقت قريب من عصرنا الا أنه عمل كثيراً على تحسين حاله ووضع قواعد تدل على الشعور الإنساني النبيل وبما يناقض الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تسير في طليعة الحضارة.
ولم تبدأ حركة إلغاء الرق إلا في القرن التاسع عشر في إنجلترا ثم في البلدان الغربية الأخرى التي أثرت بدورها على حركة الرق في بقية البلدان من ناحيتي المبدأ والممارسة. وقد توجت هذه الحركة بالاعلان العالمي لحقوق الانسان والصادر عن الاجتماع التاريخي للجمعية العامة للامم المتحدة والذي عقد في باريس في العاشر من كانون الاول عام 1948 م ونصت المادة الرابعة منه على انه ( لا يجوز استرقاق او استعباد اى شخص ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة اوضاعه).
ولا غرابة من فضلا, السبق في المعاملة الإنسانية للمرأة والأرقاء في تشريع الملك حمورابي الذي وأن يكون في نصرة المظلومين والاقتصاص من الظالمين، قد حرص على أن يكون الراعي العادل لشعبه, كما يتبين ذلك من النص المدون في أعلى مسلة حمورابي, إذ نقرأ على لسانه: " أنا حمورابي الأمير الكريم انتدبت لأنشر العدل في البلاد وأقضي على الشر والغش ومنع القوي من إضطهاد الضعيف ".
ومن المظاهر الأخرى لحقوق الإنسان حرص شريعة حمورابي على حماية الأبناء من تحكم الآباء حيث أنها نصت على عدم حق الأب في أن يحرم إبنه من الأرث إذا ثبت أن الأبن لم يقترف ذنباً يبيح هذا الحرمان (مادة 168). وهذا يعتبر أحد مظاهرالتقدم والحرص على حماية الأبناء من تحكم الآباء في زمن كانت السلطة الأبوية المستبدة هي السائدة, والتي ما زالت مع الأسف موجودة في كثير من فصائل مجتمعنا.
وهناك نصوص أخرى تعد متطورة في مجال دعم الحرية الإنسانية حتى في مقاييس العصر الحديث، ومن ذلك إعتبرت الدولة مثلاً مسؤولة عن تقصيرها في حماية الأشخاص والممتلكات، ولهذا السبب، فانه إذا قتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله تعاونت المدينة وحاكمها على دفع الدية إلى أهله، وإذا سرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه عوضته مدينته وحاكمها عما سرق منه.
فقد نصت المادة (23) "أن من وقع ضحية السرقة في حالة عدم ضبط الجاني واستردادالمسروقات يعوض من قبل أهل المدينة والحاكم الذي وقعت السرقة على أرضه". وبأعتقادي أن هذا النص يعد انجازاً رائعاً وينطوي على قدر كبير من العدالة, لأنه يهدف الى حماية الأفراد الذين يتعرضون لضرر جسيم دون تقصير منهم وتعويضهم عما أصابهم حتى لا يتحملوا وحدهم أعباء هذا الضرر الذي يجب أن تتحمله الجماعة بأسرها ممثلة بالدولة كنوع من التأمين.
وهكذا يتبين أن روح الدعوة الى الحرية الإنسانية وتحرير العبيد التي تُستخلص من أحكام شريعة حمورابي قياساً على ذلك العصر, وحتى من منظور مفاهيمنا الحديثة, تدل على جوانب من الإرتقاء الحضاري في القوانين العراقية القديمة.
وقد دعى ما سبق أن ذكرناه العديد من علماء التاريخ والآثار في أوربا وأنحاء أخرى من العالم الى الإشادة بالأحكام المتطورة في القوانين العراقية القديمة. ومن ذلك تأكيد المؤرخ الأمريكي صموئيل نوح كرومر بأن العدالة كانت رائد التشريع في بلاد الرافدين.
أن هذه الأحكام وأمثالها توضح لنا كما ذكر جورج ويفير بأن الحق المدني كان موجوداً منذ قديم الزمان, وإذا كنا نفاخر الآن بحقوق إنسانية تحققت في العصر الحديث, فإنها في الحقيقة كانت موجودة في بلاد الرافدين قبل أربعة آلاف سنة ولكنها زالت واضطرت البشرية الى تحمل المشقة والنضال الطويل لتعاود تعلمها من جديد.
وكل ما نريده هو ليس العيش في أمجاد الماضي, بل العبرة والإبتكار وأن نعطي شبابنا دفعة معنوية قوية ليرفعوا بثقة رسالة العدالة التي ورثوها عن أجدادهم, وإثبات قدرتهم على تواصل نمو الحضارة, ووضع قوانين ومحاكم تحفظ حقوق المرأة والحرية الإنسانية في كل أنحاء البلاد، وهو هدف يعتبر أيضاً من عوامل الإستقرار الدولي الذي يسعى اليه الجميع.