قبل كل شيء لا يمكن الانطلاق إلا من" الذات " أي يجب البدء من ماذا تريد "الأنا " أو ماذا تريد كل " ذات ". فأساس ومنطلق تفكيرنا وأحكامنا وتقييماتنا هو أحاسيسنا الذاتية ( وهذه الأحاسيس تتشابه كثيراً بينا , وهذا ما يعزز ويقوي الأحكام العامة و يسمح بوجودها ) .
إن كل " الذات" تريد بالدرجة الأولى تحقيق أحاسيس معينة وتحاشي أحاسيس معينة أي تريد شعور وأحاسيس التي ترغب بها , والجنة ( إن كانت في الدنيا أو الآخرة ) وما تنتجه من أحاسيس هي هدف الأغلبية . هذا هو الطلب الأول أو الدافع الأول لي ولكل منا " الأحاسيس" . فغياب الشعور والوعي هو غياب الذات أو الأنا , وبالتالي غياب المرجع وانعدام كل شيء , فإذا أطفئ الوعي وبقيت جميع التفاعلات والتأثيرات فإنه لن يكون هناك شيء بالنسبة لهذا الوعي .إن المرجع الأساسي لكل منا هو الوعي والشعور الفردي الذاتي , وهذا مقيم وله اتجاه وله أفضلية ودرجات وأشكال , فهناك أحاسيس مطلوبة وأحاسيس مكروهة .
ولكن عند دراسة الوعي والبحث عن عناصر وآليات تكوًنه يظهر أنه ناتج عن آليات وتأثيرات بنيات سابقة , فوظيفته القيام بتنفيذ عمليات موضوعة مسبقاً , وهذا يعقد الوضع لأن المهم بالنسبة لكل منا هو الأحسيس وليس تلك العمليات , صحيح أن أغلب دوافعنا تكون متفقة معها ولكن لابد من التنظيم والتوفيق بينهم .
وكذلك تحديد وتعيين ما أريد ليس بالأمر السهل لأنه مرتبط بالمعرفة والحكم الذي اتخذه , فإذا قررت أنني أريد أحاسيس لذيذة وجميلة فهناك الكثير من الطرق التي يمكن أن تحقق ذلك , ولكن أغلبها سوف يتعارض مع تأثيرات وقوى البنيات الأخرى الموجود أنا ضمن تأثيراتها , وسوف أفشل في تحقيق ما أريد إذا لم أراعي قوي وتأثيرات تلك البنيات . وهذا يدفعني إلى السعي للمعرفة لأنها الأساس في تحديد وتعيين ما أستطيع تحقيقه. أي ماذا يوجد أولاً " المعرفة الدقيقة "؟ ثم ماذا أريد ؟ ثم ماذا أستطيع فعله ؟ ولكن الوجود هو في صيرورة وعدم تعيين وهو لا متناه , ولا يمكن التعامل معه إلا بعد فهمه ومعرفته , وهذا لا يتم إلا بعد تثبيت وتحديد وتعيين . وهذا هو الطريق الوحيد لمعرفته وفهمه .
إن أهم وظيفة للعقل البشري هي كشف البنيات المضمرة في الوجود , وذلك ببناء نماذج فكرية تمثلها . فكما يقول كانت" أن المعرفة وليدة فعل الذهن في الأشياء والعقل لا يدرك إلا ما ينتجه على صورته ومثاله" .لقد عرف أغلب المفكرين والفلاسفة أن الوجود متحرك وفي صيرورة وهو لامعين , فزينون الآيلي أدرك وعرف أن الوجود متصل ولا متناه, وهو يقول أن التعامل معه فكرياً في حكم المستحيل , وهذا ما تمت مقاومته من أرسطو وباقي الفلاسفة . فالإبقاء على عدم التعيين لا يحقق مطلب العقل بتحقيق تعامل مجد مع الواقع , فيجب الوصول إلى ثوابت أكيدة يتم اعتمادها , ولكن هذا غير ممكن فلا شيء أكيد بصورة مطلقة , فالصيرورة وعدم التعيين و اللا تناهي هي من خصائص الوجود الأساسية .
هذه المشكلة هي دوماً ماثلة في كل تفكير يسعى لمعرفة وفهم الوجود , ويجب التعامل معها لتحقيق ما يرضي العقل ويقبل به . وهذا ما يفعله كل مفكر فهو يسعى لتعيين الثوابت الأساسية في هذا الوجود لكي ينطلق منها ويبني عليها أفكاره.ولكن الخيارات الفكرية المتاحة لتفسير الوجود وظواهره وأحداثه كثيرة جداً. وهذا ما سمح لكل منا أن يبرر أعماله وأفكاره وأحداث الوجود ويجد لها الأسس الفكرية المناسبة - في رأيه- , والنتيجة هي ما نشاهده في الواقع , كل شيء يمكن تفسيره , ولكن كم من العقول تقبل بهذا التفسير؟ إن ما يقوم به العقل هو تثبيت وتحديد وتعيين -أي تكميم- البنيات في هذا الوجود ببناء بنيات فكرية تمثلها , وهو بذلك يتجاوز صيرورة الزمن أو يسيطر عليها ويفهمها , ويزيل عدم التعيين لبعض أجزاء الوجود التي يتعامل معها عندما يمثلها ببنيات فكرية , ثم يقوم بتحريك هذه البنيات الفكرية التي قام ببنائها . أنه بذلك يستطيع التحرك فكرياً عبر الزمن إن كان نحو الماضي أو نحو المستقبل لأنه سوف بما حدث أو بما سوف يحدث , وذلك عن طريق التحريك الفكري عبر المكان وعبر الزمان لتلك البنيات الفكرية التي قام ببنائها. وهو يقوم بذلك بطريقة الخطوة خطوة وبذلك يبدأ بكشف الوجود وصيرورته. فهو بذلك يستطيع معرفة وفهم الوجود بالتدرج , وبذلك يستطيع تحقيق ما يريد أو ما هو مدفوع له , بقدر معرفته الدقيقة والقدرات التي يملكها .
ولكن تبقى الأحاسيس هي مطلب كل منا , فوعينا و ذاتنا هي أحاسيس .فالشيء الهام بالنسبة لنا نحن البشر هو الأحاسيس والمشاعر والإدراك والوعي, فالمعارف وكذلك الأحاسيس وظيفتهم خدمة بنية الجسم بشكل عام, وقد نشأت الأحاسيس أولاً, ثم تطورت ونمت وأصبحت على شكل أفكار وأحكام ومعارف ولكنها ظلت تابعة لأصلها الحسي .المفيد هو المطلوب أساساً, ويعبر عنه غالباً بالممتع, وأصبح هذا الممتع غالباً هو المهم.
فالأحاسيس بالنسبة لكل منا هي في النهاية مرجع قياس وتقييم كل شيء, فكافة الأحكام أو المعارف, تبنى غالباً بالاعتماد على الأحاسيس – فكما ذكرنا الإدراك والوعي هما أحاسيس- , ولا يمكن بناء و تقييم الأحكام إذا لم تكن واعية , والموجود بالنسبة لكل منا يجب أن يكون محسوساً, حتى وإن كان فكرة, فالأحكام هي أفكار محسوسة واعية , ولا يمكن أن توجد بالنسبة لنا إلا إذا أحسسنا بها و وعيناها. والكثير من الموجودات بالنسبة لنا هي في أساسها موجودات فكرية تم إدراكها والوعي بها . وليس ضرورياً أن يكون هناك مقابلاً مادياً مطابق لها, فوجودها كفكرة محسوسة كاف لكي تصبح موجودة لدينا , أما تطابقها أو عدم تطابقها مع الواقع فهذا شيء آخر. وهذا يرجعنا إلى ما فكر فيه أغلب الفلاسفة, وهو أننا لا نعرف , إلا الأحاسيس والأفكار عن الوجود, أما الوجود بذاته فهو محجوب عنا ولا نستطيع الوصول إلا لمعرفة أجزاء قليلة منه , وهي ما تتأثر به حواسنا, ثم ما يبنيه تفكيرنا وتجاربنا . إن غالبية المفكرين تعتمد أحكام القيمة كموجه أساسي لمعالجاتهم الفكرية ولا تهتم أو تركز على أحكام الواقع إلا من خلال أحكام القيمة . في رأي أن هذا تسرع في بناء أحكام القيمة ويعيق وصولنا إلى أحكام قيمة عالية الدقة , فيجب أولا أن نحدد دوافعنا وأهدافنا وما نريد وما لا نريد , عن طريق أحكام الواقع المرتكزة على التجارب الواقعية , ونسعى للوصول إلى أكبر كمية من أحكام الواقع الدقيقة , ثم بعد ذلك نقوم ببناء أحكام القيمة حسب تلك الأحكام الواقعية , وأثناء تطبيقها نقوم بالتصحيحات إن استدعى الأمر ذلك لتتفق أحكام القيمة مع أحكام الوقع بأكبر قدر ممكن .