من مجازر الجيش الحرّ – مجزرة الأتارب
تطالعنا وسائل الإعلام كل ساعة بأخبار ساخنة باردة صباح مساء عن وحشية
الجيش العربي السوري الذي – كما يزعمون – يقتحم الأحياء الآمنة و يدكّ
المباني بطائراته و دباباته و صواريخه , و يقنص الأبرياء الآمنين في كل
مكان يصل إليه و كيفما اتفق وجوده لا بدّ من ترك بصمة وحشيّة مضمّخة بدماء
الأبرياء , و لكن أين تلك القنوات من وحشية الآخرين و جرائمهم و تعدياتهم
المتواصلة على البشر و الحجر و حتى الحيوان لم يسلم من وحشيتهم , و الأمثلة
أكثر من أن تحصى في مقالة أو خبر أو حتى سلسلة من الأخبار التي قد تغطي
البثّ لأيّام لقنوات تبحث عن السبق الإعلامي أو الصحفي إن كان هذا هدفها و
هذا بالتأكيد ليس دقيقاً , فالتغطية المستمرة لها أهداف و غايات أهم من
الشعوب و أمنها و أمانها و صيانة عزتها و كرامتها أو على الأقل حياتها .
لكن ما يؤلم أكثر أنّ قنواتنا السوريّة تقصّر أحياناً بقصد أو بدونه في
رصد الجرائم و التعديات الموثقة لمن يهاجم المواطنين و أفراد الجيش العربي
السوري , الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم مواطنون سوريون يحترمون الدولة و
يلتزمون بقوانينها فكانت جريمتهم الموجبة للعقاب و القتل .
شباب
كالورود التحقوا بخدمة العلم التي تفرضها كل دول العالم على مواطنيها لأنها
حقّ واجب عليهم , فأصبحوا هدفاً مشروعاً للثوار و أهدرت دماؤهم أينما
وجدوا , و لتحترق قلوب الأمهات و الآباء و لتذرف دموعهم غزاراً فمن يهتم أو
يكترث .
المكان : سورية – حلب – الأتارب
الزمان :أواخر أيار 2012 الساعة التاسعة صباحاً
شخصيات المجزرة : - مفرزة إمداد: جنود مع دبابة و ناقلة جند و سيارة ذخيرة
- مجموعة من القناصة و المسلحين
التفاصيل : خالد شاب من أسرة فقيرة , يعيل أمّاً و أختاً و أخاً معاقاً
بعد وفاة والده منذ سنوات , التحق بخدمة العلم تلبية لنداء الواجب قبل
أربعة أشهر فقط , و بعد دورة استمرت شهراً و نصف انتقل إلى الخدمة
الميدانية , و كان مثال الجنديّ الملتزم بالنظام و أداء الواجب كما تعلّم و
تدرّب من قبل , بكلّ احترام و تقدير و محبّة لرفاقه مع حرصه على أداء
واجباته الدينيّة في وقتها و طلب دعوات أمّه كلما اتصل بها عبر الهاتف , و
هي تدعو ليل نهار " اللهم إنني لا أسألك ردّ القضاء و لكنني أسألك اللطف
فيه " و كأنّ قلب الأمّ كان يتوجّس ضرراً يتربص بفلذة كبدها , و كان ما
أحسّت به صحيحاً و لطف الله أنقذ ابنها .
انطلقت قافلة الدعم و الإمداد
بالذخيرة و الغذاء و اللوازم لتنجد مفرزة الجيش التي تتعرض لإطلاق الرصاص و
قواذف الآر بي جي في باب الهوى و قطعت القافلة نصف الطريق قبل أن تظهر
خيانة تعرّضت لها من قبل بعض الأفراد الذين نسقوا مع المسلحين كميناً لهذه
القافلة و كان ما كان عند وصول القافلة إلى نقطة في الطريق قرب الأتارب
انحصرت فيها القافلة بين مرتفعين الأول جبليّ و الثاني منحدرات حراجية
مشجرة و بدأت المناوشات بين المسلحين و جنود المفرزة الذين ظهرت شجاعتهم و
بطولتهم حيث تمكنوا بعد ساعة من الاشتباك من تمرير شاحنة الإمداد لتواصل
طريقها لمهمتها و تبقى الدبابة مع ناقلة الجند رهينة رصاص القناصة و رشاشات
المسلحين الذين كمنوا خلف أشجار التلّ , فكان الجنود بين فكّي كماشة الجبل
و نيران القتلة , يقول خالد : لم نكن نستطيع أن نميّز جهة إطلاق الرصاص و
لا مكان نحتمي به أو نتحصّن وراءه , فقررت مع اثنين من رفاقي أن نستلقي تحت
الدبابة نتقي بها الرصاص الغادر و لأنني أطول منهما طلبا مني الاستلقاء في
الوسط , لكن رصاصة قنصت أصابع قدمي و بدأت الدماء تنزف منها بغزارة , و
يزداد الرصاص غزارة فيقرّر سائق الدبابة التحرّك فجأة ليتمكن من الرد على
مصادر الرصاص و هو لا يعلم أننا نحتمي تحتها , و تتحرّك الدبابة لتطحن عظام
رفيقيّ و أنجو لوجودي في الوسط تحتها , لكنّ الحكاية لم تنتهي هنا , فما
كدت انهض من تحت الدبابة حتى أصابتني رصاصة اخترقت خوذتي لتسلخ جلد الرأس و
الرقبة قرب أذني اليسرى , و ما أن وضعت يدي متألماً حتى أصابتني رصاصتان
أو ثلاثة في يدي فسقط مغشيّاً عليّ , لم أكن أعرف كم مضى من الوقت عليّ
عندما اقترب منى رجلان بعد أن هدأ صوت الرصاص , كانا يجمعان الغنائم و
الأسلاب من شهداء و جرحى الجيش و يتحدثان بلهجة ريفية قاسية , أحسست بهما
يقتربان مني فحاولت التوقف عن الحركة , لكن صرخة ألم فضحتني عندما التقط
احدهما بندقيتي بقسوة فقال للآخر : هذا الكلب لم يمت بعد , يجب أن نخلّص
عليه , لكن الآخر قال بسرعة : شكله نازف دم كتير و ما راح ينفذ منها , بقى
هات الروسية و خلينا نمشي بسرعة لأن عناصر الجيش وصلت , أحسن ما يمسكونا
.فسلبا كل ما أحمله من نقود و هاتفي المحمول و بندقيتي و تركاني و انطلقا و
الدماء تنزف من كل جرح في جسدي و غيري كثير من الجند ما كانت أحوالهم
بأفضل من حالي .
تأخّرت النجدة لساعات , و لم نصل إلى المشفى حتى صباح اليوم التالي لتعذر المرور إلى المشفى لكثرة الاشتباكات على الطريق .
تحرق الزفرات صدر أم خالد و لا تطفئها دموع غزار بل يرطبها لسان قلب مؤمن راض بقضاء الله شاكر للطفه بفلذة كبدها .
مازال خالد في المشفى ينتظر موعد العملية الجراحية لاستخراج الرصاصة من
ساعده و يدعو الله بسلامة سورية من المحنة , و أسوأ ما يؤلمه أنّ إصابته
كانت على يد إخوته السوريين لا من أسلحة الأعداء و يرجو لهم الهداية و
العودة لبناء الوطن و حقن دماء إخوتهم و أبناء عمومتهم .
الكاتب : يسر