خرج جرذ من حجره ذات صباح. وتلفت يمنة ويسرة. ثم قال: يا ألله. ما أجمل هذا العالم! وفجأة. انقضّ عليه قط وأكله.
هذه قصة قصيرة جداً للكاتب الأرميني الأمريكي وليام سارويان. ولعله رائد ذاك النوع من القصص التي انتشرت عندنا تحت مصطلح (ق.ق.ج) أي قصة قصيرة جداً.
هذا الفأر التعيس الذي لم يُتح له أن يفرح بهذا العالم لأكثر من لحظات، ربما قال في آخر ما قال، وهو بين أنياب القط: يا ألله. ما أقبح هذا العالم! كما أن القط الذي حين عثر فيها على صيده، كان يحس بجمال العالم، لأن هذا العالم أتاح له الطعام ومقومات البقاء على قيد الحياة.
العالم لا شك هو جميل لولا هذا القط المفترس الذي داهم الجرذ على حين غرة. وهو أيضاً جميل في نظر القط لأنه أتاح له رزقه وقوت يومه، إذ وضع الفأر على مرمى مخلبه وأنيابه. وسيغدو العالم قبيحاً للقط لو أن قدره ساقه إلى أنياب ذئب مفترس. وليصبح حينئذ العالم جميلاً لهذا الذئب، وقد توفرت له أسباب العيش الرغد، مع وفرة الطعام. وجمال العالم لحيوانات الأرض ليست أكثر من وجبة طعام تملأ معدتها مع أمان من حيوان أعلى منها شأناً وأكثر قوة، يحولها إلى فريسة، فيحرمها التمتع بجمال العالم.
وتتوالى هذه السلسلة التي تبدأ بالدودة المسكينة التي يلتقطها الجرذ الطيب، لتنتهي بملك الغابة الغضنفر الذي يطول الجميع ولا أحد يقدر عليه. أو ليس هو الملك، والحاكم الأوحد والأقوى على مَنْ في الغابة الأرضية؟ ولكن للطبيعة قوانينها التي لا تحيد عنها تلك البهائم. فأفراد الفصيلة الواحدة من تلك الحيوانات تعمل ضمن ميثاق شرف يقضي بألا يفترس أحد أخاه في هذي الفصيلة أو تلك. فالقط لا يجهز على القط ليأكله. وكذلك الثعلب والنمر، ذلك أن الغذاء مؤمن له من حيوانات فصيلة أخرى. ولعل ذلك هو الحرص على بقاء النوع وعدم فناء تلك الفصيلة المتراصة المتكاتفة. لكن فصائل أخرى من الحيوانات اكتفت بما تقدمه لها الطبيعة من حشائش الأرض ونباتاتها. وهي لم تتذوق يوماً ما نكهة اللحوم، فمنحت الأمان لما دونها قوة من الحيوانات. فهي كالدول الطيبة المسالمة التي ليست بمنأى عن مطامع الدول اللاحمة. لكن الملاحظ أن جميع الحيوانات اللاحمة تمارس القتل لتأكل، كيما تستمر في الحياة. إنه دافع البقاء. وإلا فهل تموت القطة جوعاً ليستمتع ذاك الجرذ بجمال العالم؟ وبما أن الحيوانات المفترسة اللاحمة لم تتوصل إلى اكتشاف البراد والفريزة، فهي لا تفكر بطعام الغد. بل إن طعامها كفاف يومها، بل كفاف وجبتها فحسب. وهي قد تشبه ما كنا نسميها بقبائل آكلي لحوم البشر. ولا أعرف ما إذا كانت تلك القبائل البشرية ما زالت على قيد الكرة الأرضية، أم إنها انقرضت، أو دخلت عالم المدنية والحضارة وامتنعت عن أكل لحوم أقرانها من أبناء آدم وحواء. ويروى أن أحد المتمدنين التقى بواحد من أبناء تلك القبائل. وطبعاً كان اللقاء خارج الوطن الإقليمي لتلك القبيلة المتوحشة، وإلا كان هذا المتمدن قد تحول إلى وجبة لذيذة لهذا القبلي، قد يولم عليها بعض زملائه من مواطني قبيلته.
قال المتمدن للمتوحش: عندنا في ألمانيا قام هتلر بقتل أكثر من خمسين مليوناً من البشر خلال الحرب الكونية الثانية. فسأل هذا المتوحش محدثه سؤالاً في منتهى الموضوعية المعرفية: وهل هذا الذي قتلهم، قد أكلهم جميعاً؟ قال الألماني: بالتأكيد لا. هتلر لم يأكل أي شخص في حياته. فعاد ابن القبيلة المتوحشة يسأل باستهجان وغرابة: إذن لم قتلهم إذا كان لا يريد أن يأكلهم؟!
الحيوان اللاحم يقتل ليأكل. والقبائل المتخلفة الآكلة لحوم البشر، أيضاً كانت تقتل لتأكل. لكن الإنسان المتحضر، ومنذ سالف العصور والأزمان، وحده الذي مارس القتل من أجل القتل، أو لمتعة شخصية. وهو أيضاً أي الإنسان اخترع مايفوق التصور من أساليب القتل. ولكن القتل ليس بالضرورة هو: إزهاق روح الآخرين، كما فعل القط بالجرذ. بل أن تُبقي على حياة الإنسان وتحرمه من الشعور بجمال العالم، أو ليس هذا ممارسة للقتل؟ والإحصائية تقول: إن عشرين بالمئة من سكان العالم يمتلكون ثمانية بالمئة من الثروة العالمية. وأن الثمانين بالمئة من البشر الآخرين يحصلون على ما ترك لهم الأثرياء. وهؤلاء طبعاً ليسوا متساوين في المداخيل والأموال، والعالم البشري مليء بالجوع والمرض والجهل.
ترى هذا الطعام الذي يرميه أثرياء العالم وحتى أنصاف أو أرباع الأثرياء، في الحاويات وبراميل القمامة كل يوم. بل وبعد كل وجبة طعام، ألا يكفي لإطعام كامل جياع الصومال وباقي جياع العالم؟ وما يصرفه المترفون والمترفات من طائل الأموال على أدوات التجميل وأدوية الرشاقة، أو لا يكفي لمداواة كل من يشكو من أمراض مزمنة أو عابرة ولا قدرة له على مصاريف العلاج. وما يعرف من ميزانية هائلة على مراكز أبحاث عالمية لتقصي قمر جديد في مجموعة شمسية، أو رصد نجم في مجرة بعيدة، أو اكتشاف ثقب أسود في أقاصي الفضاء السحيق، هذه الأموال المهدورة على علم مترف، ألا تكفي لتمكين كل أطفال العالم المساكين من الذهاب إلى المدارس لتعلم مبادئ القراءة والكتابة وبعض من أصول الحساب؟
العالم جميل حقاً. وجميل جداً بسمائه وبحاره وصحرائه وغاباته وجباله ووديانه، وأريافه ومدنه. والجميلون من بني البشر قد أضافوا إليه ما يزيده من الجمال على مر العصور. فلماذا يا ألله، ومنذ بدء الحياة كان الأشرار من بني الإنسان يدمرون ما في العالم من جمال؟