أن نستذكر رسام الكاريكاتير العربي ناجي العلي في هذه الأيام العربية
الحافلة بالمتغيرات، وبالهجمة الأمريكية الصهيونية المتلونة بجلد حرباء،
ذلك يعني أن العرب ما زالوا قادرين على صناعة مستقبلهم بأنفسهم، وأن فراسة
الرسام ما زالت عبقة بآيات الصمود، وتعيش في سلوكنا وأفعالنا وذاكرتنا،
وتطمئننا بإمكان النصر على الأعداء بمختلف مسمياتهم. وأن نبض المقاومة ما
زال يضج بالحياة فينا، وروح الشهيد ناجي ترفرف فوق الرؤوس وترسم معالمها
الخطيّة في أفق الرسامين والمثقفين العرب كمرجعية لمواقف وجمال فكرة
وواقعية وصف.
في مدونة استشهاده ورحيله الجسدي الرابعة والعشرين، المواكبة لما
أسموه اصطلاحاً خادعاً (ثورات الربيع العربي)، ثمة معلقات سردية لوطن عربي
مأزوم، وقضية فلسطينية ضائعة في أروقة الأمم المتحدة، وسماسرة الدم العربي
المسفوح من المحيط إلى الخليج. باعتبار (ناجي العلي) يُجسد رمزية الحالة
والاستثناء معاً. يتجلى في يوميات رسومه، ذلك الوضوح وجلاء الحقيقة حول
مقولات الصراع العربي الصهيوني، ومكوناته المتفاعلة بوضوح الحبر الأسود على
بياض الورق. فاضحة الدول والشعوب والأحزاب والأفراد في تصويرهم وأفكارهم
وخلفياتهم، ووجوههم القبيحة من أولئك الفاسدين الذين دخلوا في معامل
اختباره، باعتباره موئلاً جامعاً وذاكرة بصرية كاشفة وواسعة الطيف، تلم
بأشتات الصراع وأسراره ومراحله، وتدخل في متن مفاصله الخطرة عابرة جميع
الحواجز في مضامينها ومعانيها، وخطوطها الحمراء الممنوعة التي كلفته حياته
في سردية موت واستشهاد درامي في مدينة الضباب، والتآمر الدولي بيد قاتل
محترف و(شبيح) مأجور في مدينة (لندن) يوم الثاني والعشرين من تموز، ليدخل
في غيبوبة الموت حتى وافاه الأجل في التاسع والعشرين من شهر آب عام 1987،
كدليل مادي على مصداقية مواقفه، ودوره الوظيفي كفنان وإنسان مُقاوم على
جبهة الثقافة والفن، وحالة استثناء بشرية مُعبرة عن مناطق تفكيره ومصداقية
مواقفه وأنماط حياته.
رسومه كتاب مفتوح على القراءة، وهو سِفر خطي
بالأسود بالأبيض لا مكان فيه للرمادي والضبابي. وهو بذلك يوحي إلينا أن لا
حلول وسطاً، ولا مكان للتفاوض مع أعداء الداخل الفلسطيني وخارجه من عرب
وأعاجم، ولا مناص من تمثل مقولة: (أن نكون أو لا نكون) وتخيرنا الطوعي
لصيرورة وجودنا، وتفاضل القيم ما بين دروب الحياة الكريمة، أو الموت
المُشرف دفاعاً عن حياض الوطن. والوطن لديه ليس فلسطين بحدودها الجغرافية
وحسب. إنما فلسطين بالنسبة إلي هي: (الوطن العربي من محيطه إلى خليجه)، وهي
اسمه الحركي والسري، وبما يحمل في طياته من شجون آلامه، المُختلطة بآماله
ومعاركه التي خاضها، بما سموه اصطلاحاً الصراع العربي الصهيوني.
دمه
ما زال يانعاً في أحفاده، ورسومه الماثلة في مساحة الذاكرة البصرية
والمعرفية لأجيال فلسطينية وعربية، تعلمت دروس المقاومة من خلال رسومه،
الذين تتلمذوا على يديه وبياناته القتالية، كان وما زال تذكرة العبور
المعلن لجراحتنا العربية، واسم حركي متنوع المسميات والأمكنة في أيامنا
وليالينا العربية الكالحة والمظلمة، يصيب منّا القلوب والعقول ويُعمل سلاحه
المتواضع خط ولون متساوق مع سلاح الحجر في الضفة الفلسطينية الأُخرى، وكيف
لا وهو الناطق الرسمي الدائم باسم انتفاضة أهلنا في الأرض المحتلة منذ
العام 1976 حتى لحظة استشهاده، وما زالت رسومه تصدح بفصيح القول والبيان.