تركز بعض وسائل الإعلام الغربية خلال مرحلة ما بعد (مقتل بن لادن) على عنصر (التطرف الإسلامي) في بعض جمهوريات آسيا الوسطى، علماً أن قوى متطرفة تمارس نشاطها في أكثر من جمهورية في آسيا الوسطى على الرغم من ملاحقة السلطات المحلية لها، مثل حزب التحرير الإسلامي الذي وجهت له السلطات الأوزبكية ضربة مؤلمة منذ عدة سنوات، لكنه ما زال يتمتع بقدرة على التحرك في المنطقة عبر تعاونه مع بعض القوى في أفغانستان. واللافت هنا أن وسائل الإعلام الغربية تثير قضية الحركات الإسلامية المتطرفة في آسيا الوسطى في هذا التوقيت وكأنها تتعمد خلق انطباع بأن الوضع في آسيا الوسطى لا يختلف عن الوضع في أفغانستان.
الغريب في الأمر أن تفجيرات استهدفت مراكز أمنية في كازاخستان أتت متزامنة مع تناول وسائل الإعلام لظاهرة القوى المتطرفة في آسيا الوسطى. وكازاخستان جمهورية تميزت عن جاراتها وعن غالبية الجمهوريات السوفييتية السابقة بالأمن والاستقرار منذ استقلالها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، على الرغم من التنوع الديني والعرقي الذي تتميز به. ولم يسبق أن حدثت فيها أية أعمال شغب أو تفجيرات أو مواجهات أو عمل تخريبي في هذه المرحلة. يُشار إلى أن قوى إسلامية متطرفة قامت بما هو أقرب إلى محاولة خلق أجواء من الخوف والقلق بين ممثلي مختلف الديانات والقوميات الممثلة في المجتمع الكازاخي، وصولاً إلى تقسيمات على هذا الأساس. فمن الطبيعي أن يشعر المسيحي أو البوذي في كازاخستان بالقلق، وأن يلتفّ أبناء كل ديانة حول بعضهم عندما يشعرون بأن خطر التطرف الإسلامي يهددهم.
بعبارة أخرى هناك ما يدفع إلى القول بأن بعض الجهات تسعى جاهدة إلى نقل التوتر من أفغانستان إلى آسيا الوسطى، مستغلة التنوع الديني والقومي لتحوله من عامل إيجابي في البنية الاجتماعية-السياسية للدولة الواحدة إلى عنصر توتر وتفكيك. في غضون ذلك برزت خلافات بين بعض جمهوريات آسيا الوسطى بسبب تقاسم المياه للري والشرب على خلفية شحها في السنوات الأخيرة، وهناك قضية تسلل المجموعات المسلحة من أفغانستان عبر جمهورية في وسط آسيا إلى أخرى. هذه كلها عناصر يمكن أن تُستغل ببساطة لإشعال منطقة آسيا الوسطى وتعميم الحالة الأفغانية على المنطقة ككل، لإضعافها وخلق مبررات لوجود أمريكي-غربي عسكري دائم بذريعة مواجهة التطرف أو حماية المدنيين، بينما يكون الهدف الرئيسي لكل هذا وضع اليد على المنطقة الغنية بثرواتها لاسيما النفطية والغازية.
ويبدو أن الولايات المتحدة تشعر بمدى تورطها في المستنقع الأفغاني، وبأن روسيا تستفيد من الدور الذي تلعبه القوات الأمريكية في أفغانستان، إذ يحول الوجود العسكري الأمريكي هناك، بصورة أو أخرى، دون انتقال العنف من أفغانستان إلى آسيا الوسطى التي ما زالت تشكل منطقة نفوذ روسي. في غضون ذلك تواجه الولايات المتحدة الغارقة في أفغانستان وباكستان صعوبة في تحقيق أهداف سياستها في آسيا الوسطى، ولذلك ظهرت الحاجة إلى تعديلات على السياسة الأمريكية في المنطقة، الأمر الذي تطلب الإعلان عن قتل بن لادن، تمهيداً لتبرير تقليص عدد القوات الأمريكية في أفغانستان، وربما انسحابها كلياً لإطلاق المارد من أفغانستان نحو آسيا الوسطى.
ويرى متابعون أن الغرب قد يذهب إلى استغلال الأوضاع الداخلية في بعض جمهوريات آسيا الوسطى لخلق حالة من التوتر على شكل ثورات تسعى إلى تغيير أنظمة الحكم. إذ تبدو الإدارة الأمريكية غير راضية عن رؤساء مثل الأوزبكي إسلام كاريموف، والكازاخي نورسلطان نزار بايف، اللذين يحكم كل منهما في بلده منذ العهد السوفييتي، وبقيا في السلطة بصفة رئيس بعد الاستقلال. كما أن واشنطن التي ترغب في توسيع انتشارها العسكري في آسيا الوسطى غير راضية عن الحكومة القرغيزية بسبب منحها قواعد إضافية للقوات الروسية في الأراضي القرغيزية وعدم تقديم أي تسهيلات للقاعدة الجوية الأمريكية بالقرب من العاصمة بشكيك، والتلويح في كل مناسبة بإمكان إغلاقها. ومع وجود خلافات عرقية لم تنته بعد في جنوب البلاد قد تجد واشنطن من هذه الظاهرة غير مدخل لزعزعة الوضع هناك، كما ستفعل مع تركمانستان أيضاً.
اللافت أن الولايات المتحدة التزمت الصمت النسبي سنوات طويلة حيال أنظمة الحكم في آسيا الوسطى، والتي لا يمكن وصف معظمها بأنها أنظمة حكم ديمقراطية، بل أنظمة فردية تقوم على هيمنة الرئيس على كل شيء وإقصاء قوى المعارضة. وأملت واشنطن أن تحصل مقابل صمتها هذا على الحصة الأكبر من النفوذ في آسيا الوسطى، إلا أن قادة تلك الجمهوريات الذين يتمسكون بكراسيهم كانوا عاجزين عن تحقيق الرغبات الأمريكية لأنهم يدركون أهمية إقامة علاقات أكثر تعاوناً مع روسيا لضمان بقائهم في السلطة، ولم تعد هذه السياسة مقبولة أمريكياً على ما يبدو، لذلك لا يستبعد المراقبون أن تُصعّد الولايات المتحدة من انتقاداتها لأنظمة الحكم في المنطقة مقدمة لتدخل بالشؤون الداخلية لهذه الجمهوريات عبر تبني قوى معارضة معينة تعمل على تغيير أنظمة الحكم هذه.
ولما كانت المصالح الأمريكية عنصراً وحيداً رئيسياً يحكم تحريك واشنطن لملف الحريات وحقوق الإنسان وما شابهه، فإن الوضع الحالي في آسيا الوسطى لم يعد يلبي هذه المصالح، من هنا يُتوقع أن تشهد الفترة القريبة القادمة تغيرات في السياسة الأمريكية تجاه آسيا الوسطى، تحت عنوان (مرحلة ما بعد قتل بن لادن)، تركز هذه التغيرات على ممارسة الضغط على الحكومات الحالية في آسيا الوسطى، والعمل على استبدالها، أو تحويل هذه الجمهورية أو تلك إلى نسخة عن أفغانستان، إن تعذر السيطرة عليها أمريكياً بالوسائل الأخرى. بهذا الشكل تلقي الولايات المتحدة ببعض الأعباء الأفغانية على كاهل روسيا فتثقله وتربك النشاط الروسي في المنطقة، كما ستستفيد من حالة التوتر هناك لتفرض وجودها العسكري في قلب آسيا وفي حوض قزوين، لتحقق الحلم الأمريكي بالسيطرة على قلب العالم النفطي والغازي، علاوة على وضعها اليد على هذه المنطقة التي تشكل واحداً من أهم الممرات التجارية عالمياً.
طه عبد الواحد