تقديس الحرية
استفاق سكان البناء الذي أسكنه على رائحة تغلغلت في جميع الطوابق، فاعتقد كل صاحب منزل أن عطلاً ما أو ماساً أصاب منافذ الكهرباء في شقته، فأحضر الفاحص لاختبار سلامتها حرصاً على أجهزته الكهربائية، لكن أحداً لم يكتشف مكان العطب، وما زالت رائحة الحريق الخفي الذي لم يعرف مصدره تزداد.
لم يحضر السكان كلباً كي يتعقب مصدر الرائحة، لكنهم استخدموا طريقته في تقفي الأثر وفعّلوا حاسة الشم لديهم. وبدؤوا أولاً بتحليل لتلك الرائحة المنبعثة من منافذ الكهرباء في المطابخ على وجه التحديد، ومن فتحات المراوح التي تشفط رائحة الطعام إلى الخارج، كي تصعد نحو السطح، فتشمموا بالاقتراب من جميع الأبواب ثم قرعها، فتحت كلها إلا واحداً وتبيّنوا أن الرائحة تخرج من منافذه الضيقة أو معششة فيه، طرقوه كثيراً ولا من مجيب في الداخل، عندئذ اتصل أحدهم بسيارة الإطفاء، ثم قام اثنان بخلع الباب. وقفوا جميعهم فوق رأس الرجل النائم صامتين مذهولين من هول المشهد، ظنوا أنه ميت، لكن تموج صدره وارتفاعه وهبوطه أكّد لهم أنه في غفوة عميقة، وحوله خمس زجاجات من المشروبات الروحية، وغيمة من الدخان تملأ البيت. ركض أحدهم باتجاه الغاز الذي وضع عليه وعاء، فوجد فيه فرّوجاً متفحماً، ومازالت النار مستمرة في شيّه. أيقظ الرجال الشاب العراقي الذي استأجر هذه الشقة منذ أسابيع قليلة بعد اللّكز واللّطم. فتح عينيه بصعوبة بالغة مندهشاً مما حوله، بدؤوا يلومونه على فعلته، من كل شخص جملة تدق إسفيناً في قلبه، قام يعتذر بما لم يقنعهم، فخرجوا متذمرين مستنكرين، وتركوه لوحدته وغربته. وفي يوم آخر شديد الحرارة، فاحت رائحة للقذارة وملأت البناء دون معرفة مصدرها، تأكد الجميع من نظافة بيوتهم، لكن هذه المرة ودون تأنٍّ اقتحموا عزلة الشاب، ليجدوه مسترخياً في غير دنياه، ويبدو أنه لم يلق نفاياته إلى عامل النظافة منذ أكثر من أسبوع، صرخوا في وجهه متسائلين عما أتى به بلاء عليهم يقلق سكينتهم، فمرة دخان وأخرى رائحة القمامة! استمع إليهم وهم يتهمونه بكل الصفات السيئة بلا مبالاة غارقاً في صمته وحزنه وذله، ثم تركوه لوحدته وغربته. لكن أحدهم عاد إليه يساعده بلملمة النفايات، ثم أخرجه من وحدته، وعقد معه صداقة تنشله من صمته، فتحسنت أحواله وخرج من صمته باكياً شاكياً غربته.
كلما سمعت مقطعاً من أغنية فيروز التي أطلقتها في ألبومها الأخير والذي يقول (الأرض لكم وأنتم الطريق، فانهضوا من قيدكم عراة أقوياء، والأرض لكم قدّسوا الحرية حتى لا يحكمكم طغاة الأرض!). وعندما أتذكر الشاب والشعب العراقي، لا أدري لماذا أحزن من كل قلبي وأتساءل بأي السبل علينا أن نقدس الحرية؟
النور 471 (16/2/2011)