من خارج الأحزاب ... القوة التي غيرت وجه مصر !
شؤون سياسية
بقلم: عبد الرحمن غنيم
انهار النظام المصري بفعل غضب ثورة شباب «25 يناير» وتنحى أمس حسني مبارك عن سدة الرئاسة ولكن إلى ماقبل أسابيع قليلة مضت ، كانت المشكلة التي تشغل أذهان العديد من المفكرين والمهتمين بالشأن العربي ،
تتمثل فيمايبدو بغياب الأجيال العربية الجديدة عن هموم الأمة. وكنا بالتأكيد نقيس هذا الغياب في ضوء تجربتنا التاريخية لدور النضال الحزبي في العمل الثوري .
فعجائز اليوم في هذا السياق بدؤوا رحلتهم مع النضال العقائدي والثوري بمختلف أشكاله ، مذ كانوا أطفالاً في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي،بينما تبدو أجيال اليوم وكأنها تقف على هامش الأحداث.
فجأة جاء الحدث التونسي، ليعقبه الحدث المصري ، وإذ بنا نفاجأ بجيل جديد يندفع إلى الساحات بإرادة حديدية فماهي القوة الكامنة وراء هذا الجيل ؟
سؤال كبير وخطير يجب أن نقف عنده بجدية تعادل جدية الفعل الذي استطاع هذا الجيل ممارسته على أرض الواقع.
قبل أكثر من عقدين من الزمن، شاركت في ندوة نظمتها الدائرة الثقافية بالشارقة حول استشراف آفاق المستقبل فيما يتعلق بتأثير الكمبيوتر على الأطفال في الوطن العربي .
وكانت معظم نماذج الكمبيوتر المطروحة في الأسواق آنذاك مخصصة لألعاب الأطفال مع برامج ثقافية يمكن تحميلها عليها.
وقد أبديت التخوف آنذاك من أن نكون إزاء هذا التطور الكبير في تقنيات التربية والتعليم مجرد مستهلكين لمواد يتم إعدادها في الخارج وفق مقاييس الجهات المنتجة لما تراه ملائماً لأطفالها ، وألا ندخل على خط الإنتاج الثقافي لتأمين مانراه الأنسب لبناء الهوية الوطنية والقومية والفكرية، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن ، ومع تعدد أنشطة التواصل على الشبكة العنكبوتية ، أجاد أطفالنا التعامل مع هذه الأنشطة و باتت جزءاً من حياتهم ، دون أن نعرف نحن بالضبط ماهو الشيء الذي يتوخونه من التوسع في التواصل ، بل لعله تشكل لدينا نوع من الشعور بأنهم يمارسون نوعاً من التسلية لاأكثر ولاأقل ،وأنهم على هذا النحو يبددون وقتهم بدلاً من استثمار التقنية الجديدة في التعلم مثلما نريد منهم ولهم.
الآن والآن فقط تبين لنا أن الأمر ليس كذلك، فالشباب الذين هبوا لمواجهة النظام في تونس كالشباب الذين هبوا في مصر، جاء جلهم - إن لم يكن كلهم - من عالم افتراضي قائم على التواصل عبر الانترنت . لكن المشكلة تمثلت في أنهم وإن رفعوا شعار التغيير وأصروا عليه ، إلاأنهم لايملكون البرنامج ولا القيادة ، وبالتالي فإن الفراغ عندهم كان يجب أن يملأه سواهم ، أي أصحاب المنهج التقليدي في الممارسة النضالية والمتمثل بالأحزاب السياسية القادمة من صفوف المعارضة أو أشخاص لااعتراض عندهم عليهم ربما لسبب واحد بسيط يتمثل في كونه ليس مسجلاً على «البلاك لست» التي حددوها مسبقاً.
ولكن ماذا إذا ماتبين ولكن بعد فوات الأوان أن هذا الحاكم الجديد هو ممثل هذه الجهة الدولية الخارجية أوتلك ؟
لعل مثل هذه التفاصيل الدقيقة لاتعنيهم فالتغيير هو الهدف وإنجازه يعني النجاح وإذا حدث وتبين أنهم خدعوا فإن التواصل بينهم قد يكون كفيلاً بتجميعهم مرة أخرى لإعادة الكرة من جديد.
وهكذا يتحولون إلى قوة فاعلة ولكن دون أن يمسكوا بالأوراق بشكل فعلي .
بالنسبة لدارسي العلوم السياسية ، تشكل هذه الظاهرة الجديدة واحدة من الظواهر الخطيرة التي تستحق الدراسة، فالأوضاع السياسية لم تعد تحسب على أساس توزع القوى والأحزاب السياسية ونسبة القوى التي تمثلها هذه الأحزاب والاتجاهات السياسية التي تعبر عنها ، ولم تعد دراسات الرأي العام تجدي كثيراً في فهم الواقع وماينطوي عليه من احتمالات .
ذلك أن الحراك المباغت يمكن أن يأتي من الشبكة العنكبوتية على خلفية ظروف معينة ، وهذه الشبكة يمكن أن تسهم في خلق الظاهرة الجماهيرية، وعليه فإن آليات صناعة الثورة يمكن أن تختلط مع آليات صناعة الفتنة ، ومن المؤكد أنه لا أجهزة الأمن التونسية ولا أجهزة الأمن المصرية تشكل عندها مسبقاً تصور عن حجم ماحدث ، وحتى بعد وقوعه لم تتخيل حجمه ،لأن تقديراتها في الأساس تعتمد على رصد أعداد المنتسبين للأحزاب السياسية في نطاق المعارضة العلنية منها والسرية ، ولكن لم يخطر ببالها على الإطلاق أن زبائن الشبكة العنكبوتية أوجزءاً مهماً منهم هم من سينزلون إلى الشوارع حتى في غياب قوى المعارضة ودون أي علم لها في البداية، بحيث جاءت القوى التقليدية لتلهث وراء الحدث.
للأسف أننا لا نعرف ما طبيعة الألعاب الافتراضية التي مارسها هؤلاء الشباب في مراحل طفولتهم الأولى لتشكل خلفية لاشعورية تحكم سلوكهم اللاحق ،ولانعرف طبيعة ومصدر الإشارة التي حولت الاستعداد النفسي الكامن إلى فعل ، وحولت هذا الفعل إلى استعداد هائل للتضحية.
ولانعرف - وهذا هوالأهم - طبيعة العلاقة الإنسانية الرفاقية التي تشكلت بينهم رغم أن أياً منهم لم يلتق بالآخر لقاء مباشراً ، وإنما تعرفوا على بعضهم البعض من خلال المواقع التي تؤمن التواصل الاجتماعي.
نحن إذاً أمام صياغة جديدة للحراك السياسي ، صياغة نطمئن لها إذا كانت تنطلق من نفوس أبنائنا البريئة ، ولكن ماذا إن كانت هناك قوى لتتحكم في هذه الصياغة وتستغلها في سياق سياستها القائمة على (الفوضى الخلاقة) ؟
إنه سؤال كبير وخطير يفرض نفسه على العقل العربي، وعلى العقل العربي الثوري بالذات، فالفوضى الخلاقة لايمكن أن تقود إلى وضع ثوري حقيقي ،وهذه هي المشكلة ،بينما يقدم أبناؤنا أرواحهم من أجل خلق هذا الوضع الثوري الحقيقي بالذات.