لا يذكر عبدالله تماماً
أنه قد دعا هذا الرجل إلى بيته ولا يذكر أنه قد فتح له باب البيت 00بل كل
ما يذكره أنه كان يقلب على ضوء الشموع صوراً شاحبة لأقاربه وأصدقائه من
كبر منهم ومن شاخ ومن رحل إلى أصقاع الأرض أو بلاد الرمال أو ابتلعته
القبور 00
وفجأة
انتصب أمامه هذا الرجل -من أنت؟-كيف تسألني وقد دعوتك -لا أذكر أني دعوتك
-لقد شاخت ذاكرتك كما شاخ جسدك 00ألا تدعونني للدخول ؟-تفضل00من
هنا00-أعرف الطريق-يبدو لي أنك قد زرتني من قبل -بدأت تستعيد ذاكرتك -أنت
نذير شاهين -هذا صحيح00أتذكر لماذا أرسلت ورائي ؟-لا أستطيع -بل لا تجرؤ
00لقد أرسلت ورائي كي أختار لك العبارة التي ستكتبها على شاهدة قبرك
-مستحيل -لماذا؟-يستحيل أن أتخيل شاهدة القبر والآس والزائرين العجولين
-غريب أمر هؤلاء البشر 0لماذا يبعدون الموت عن أذهانهم كلما خطر -الحياة
قصيرة ولا نحياها سوى مرة -بل لأنكم تجهلون ما سيجري بعد الموت رغم
تظاهركم بالإيمان -أرجوا أن تغادر -هذا صعب 00لن أغادر حتى أختار لك
الجملة التي تعجبك -وكيف ستختارها -سأختار لك عبارة تثير الحزن في أعماق
من يقرؤها -لماذا ؟-الحزن أصدق العواطف وأعمقها -لا أريد شيئاً حزيناً
00ألا يكفي الحزن ونحن أحياء -معك حق 00ما رأيك بأن تنقش على شاهدة قبرك
هذه الجملة :(لقد كان شجاعا)-أتسخر مني؟!-أبداًبل أنت تسخر وأنا واثق أنك
تعرف قصتي مع صديقي (جواد)الذي تركته ينزف في أرض المعركة دون أن أجرؤ على
الاقتراب منه 0(حوصرنا في القرية المهجورة وكانت الأرض والسماء تمطران
شظايامن نار ورصاص 0نفدت ذخيرتنا القليلة وليس من وسيلة للنجاة سوى الهرب
0وصوت اللاسلكي يموء (دبروا رؤوسكم 00الانسحاب كيفي) ودبرت رأسي وتركت
صديقي ينزف 0لم يصدق أنني سوف أتركه بعد أن قاسمني كل شيء 0التدريب
00العذاب 00الخيمة00الطعام00الأحلام00وحين رآني أتوارى بين الصخور أمال
رأسه عني 00تقيأ دما ثم أغمض عينيه إلى الأبد)-لا تقس على روحك كثيراً قد
أفعل أنا ما فعلت -أرجوك 00إذا كنت مصراً فاخترلي عبارة أخرى -لابأس
اسمع(هنا يرقد رجل صادق في زمن تعرفونه)-أعدت ثانية للسخرية مني؟-ولماذا
اسخر منك ؟-لأنك تعي تماماً بأنني لست صادقاًَ 00كذبت في حياتي آلاف
المرات -لم تؤذ أحداً في كذبك -بل آذيت 00كذبت حين اتهمت زميلي المتفوق
بأنه قد سرق نقود معلم الرياضة وأنا الذي سرقتها وكذبت حين ادعيت بأن
جارتنا تكتب الرسائل الغرامية لأحد الشبان لأنها رفضتني 00وكذبت حين خطبت
في استقبال أحد المسؤولين 00وجعلت منه بطلاً ومنقذاً وحاميا00وكذبت
00-يكفي يكفي00أعتقد أنه قد جاءتني العبارة المناسبة (من يرقد هنا كان
بارا بأهله )-يؤسفني أيضاً أن أخيب ظنك 00أتصدق بأنني لم أزر أمي شهرين
كاملين قبل وفاتها رغم سؤالها الملحاح عني 0ولم أزر قبر أبي منذ ستة أعياد
00ونازعت إخوتي بشراسة ذئب جائع على الميراث القليل وهدرت أموالا في
المحاكم ولم أخجل من محاسبة إخوتي على الأثواب وأواني الطبخ والثياب
والأحذية لاطمعا بل نكاية أيضاً 00-لايبرر أي شيء عداوة إخوتك -حدث ما حدث
ولا جدوى من اللوم -اسمع ما قولك في هذه العبارة اللطيفة :(لقد كان وفيا
لزوجته )-ألا تكف عن السخرية 00ماذا فعلت لك؟-وهل خنت زوجتك ؟00لماذا لا
تجيب؟أين هي ؟في المشفى تحضر ولادة زوجة ابنها -أتقصد ولادة زوجة ابنك
-نعم -ستصبح جداً بعد ساعات 00بل ربما أصبحت 00أنت مكتئب -لا أدري -الحياة
سوف تستمر 00شئت هذا أم رفضته -ألا تستمر إلا إذا رحلنا عنها-كما رحل
والداك من قبل -الحياة ومضة-ماذا أضأت بها -لا أدري -ألا تخبرني كيف خنت
زوجتك -ولماذا تسمي هذا خيانة ؟-الناس من أطلق ذلك -ليجعلوا من الزواج
سجناً وأصفادا-أنت تبرر فعل الخيانة 00أخبرني فقد أقتنع -سافرت وحدي إلى
بلاد بعيدة للعمل هناك 0أشهر تتوالى وراء أشهر وأنا آكل وحدي 00أنام أغسل
ثيابي 00أحلم 00لم يبق من زوجتي سوى صوت شاك نادب على الهاتف 00التهب جسدي
حاولت إطفاءه بوسائل شتى لكنه يطلب امرأة تروي غليله وحين كاد أن يحترق في
إحدى الليالي ويحرق روحي معه التقطت أنثى من باب أحد الفنادق الرخيصة
00ولا أذكر منها الآن سوى رائحة عرقها وعطرها الرخيص -ألا يوجد في حياتك
ما تفخر به -ربما ولكنه لا يستحق الذكر أمام المرار الذي أشعر به -اسمع
00سأختار لك عبارة أخيرة أرضيت بها أم لا :(لقد كان إنسانا حرا ويكفيه
هذا)-من تعني؟-أنت!-هل انتقلت من السخرية إلى إطلاق النوادر والنكات
-لماذا ؟هاأنت تتكلم 00تمشي 00تركض00تحب00تكره00تتناسل00تحلم00تمرض تبكي
00تضحك 00-ولكني لم أقل أبدا ما أريد قوله 00لم أسمع أو أرى أو أفكر إلا
كما أرادوا 0تكلمت 00صمت 00بكيت 00فرحت 00رقصت 00عندما أرادوا 00أنا لست
سوى دمية يتداولها مهرجون يحركهم مهرجون 00-من هم؟-قل لي أنت من هم؟لم يجب
الزائر رغم صراخ عبدالله 0ساد الصمت قليلاً 0فجأة ومضت المصابيح وصرخ
أبناء الحي مبتهجين بعودة التيار ليتابعوا بشغف شاشة التلفاز 00التفت
عبدالله حوله لم يجد أحدا سوى نفسه 0كان واقفاً أمام المرأة وثمة عبارة لا
يدري من خطها تقول:(أنا آسف لم أفعل إلا ما استطعت)00أعجبت العبارة عبدلله
وأقسم أن يضعها في إطار ويعلقها ولكن على الجدار 00فمسألة الموت ما زالت
بعيدة