السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقاتكم بالإيمان وبكل خير ،، وبعد
أريد أن أعرض عليك هذه المسألة/ شاب من خيرة شباب المساجد ..
تفقه في دينه وعقيدته بما يسر الله له ... دارت الأيام والدوائر عليه حتى
وقع في ابتلاء شديد ... أخذ هذا الابتلاء يضعفه شيئا فشيئا ... حتى وصل به
الحال الى صراع داخلي بينه وبين نفسه ... تارة يجد في نفسه تساؤلا :
هل كل هؤلاء البشر من غير المسلمين سيخلدون في نار جهنم وسيجدون من العذاب
ما لا يستطيع الإنسان وصفه لمجرد أنهم لم يشهدوا بالشهادتين ولم يعملوا
بتعاليم دين الإسلام
: لقد دخل الشيطان لهذا الشاب المؤمن من باب عظيم جدا وقد آلمه
وعذبه بهذه الوساوس القبيحة، قد لا نجد مبررا لهذا الشاب بأن يتأثر بهذه
الوساوس، ولكن _ حسب رأيي _ الابتلاء وشدته له دور فعال في هذه المسألة ...
السؤال هنا : كيف نبعد هذا الشاب عن هذه الهاوية، وكيف نطرد عنه هذه
الوساوس الخطيرة والتي تهدد ايمانه، وهل مجرد التفكير في هذه المسائل يكون
بسبب خلل في ايمان الانسان أم أنها طبيعية ؟
أسأل الله لك الثبات وأن يجعل مثواك الفردوس الأعلى
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وأسعد الله أوقاتكم بالإيمان وبكل خير
وأسأل الله لنا ولكم الثبات .
أولاً : مثل هذه الوساوس قد تَرِد على الإنسان
، إلاّ أنه لا يجوز التشاغل بها ولا الاسترسال معها، وإنما واجب الإنسان
تجاه ذلك أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأن يَنتهي عنها ، وأن يقول
: آمنت بالله .
قال صلى الله عليه وسلم : لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال هذا خلق الله
الخلق ، فمن خلق الله ، فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله ، وليستعذ
بالله ، ولْيَنْتَهِ . رواه البخاري ومسلم .
ثانيا : مثل هذه الوساوس وَرَدت على بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهم ، ولم يتكلّموا بها ، ولم
يلتفتوا إليها ، وقد شَكَوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا :
إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : وقد وجدتموه ؟
قالوا : نعم . قال : ذاك صريح الإيمان . رواه مسلم .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة . قال : تلك مَحْض الإيمان . رواه مسلم .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لأَنْ يَكُونَ
حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ، فَقَالَ :
اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ ، الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ . رواه الإمام أحمد
وأبو داود .
ثالثا : في مثل هذه المسائل التي وردت على أخينا يجب أن يُنظر فيها من عدة وجوه :
الأول : أن يُنظر في عَدْل الله ، وأن الله
لا يَظلِم أحدا ، ومن كمال عدله أن يُقتصّ للبهائم بعضها لبعض ، ثم يُقال
لها : كوني ترابا . قال عليه الصلاة والسلام : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم
القيامة حتى يُقَاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء . رواه مسلم .
الثاني : أن الله يفعل ما يشاء ويَحكُم ما يُريد ، وأنه سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يَفعل .
الثالث : أنه تبارك وتعالى لو عذّب خَلقه
لَمَا كان ظالما لهم ؛ لأنه يتصرّف في خلقه ومُلْكه . ومع ذلك فإنَّ الله
لا يُعَذِّب أحَدًا حَتى يُقِيم عَليه الْحُجَج والبَرَاهِين والآيَات
البَيِّنَات .
ومن عقيدة أهل السنة : أن الله لو عذب أهل السموات والأرض بَرّهم
وفَاجِرهم عذبهم وهو غير ظالم لهم . قال الإمام البربهاري في " شرح السنة
" : واعلم أنه لا يدخل أحد الجنة إلاَّ برحمة الله ، ولا يُعذِّب الله
أحدا إلاَّ بذنوبه بقدر ذنوبه ، ولو عذّب الله أهل السموات والأرض برهم
وفاجرهم عذبهم غير ظالم لهم .
لا يجوز أن يُقال لله عز وجل إنه ظالم ، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له ،
والله له الخلق والأمر ، والْخَلْق خَلْقه ، والدار داره ، لا يسأل عما
يفعل وهم يسألون ، ولا يُقال : لِمّ ؟ وكيف ؟ ولا يَدْخل أحد بين الله
وبين خلقه . اهـ .
وقال ابن عبد البر : " ولَو عَذَّب الله عِبَادَه أجْمَعِين كَان غَيْر
ظَالِم لَهُم ، كَمَا أنه إذا هَدَى ووَفَّق مَن شَاء مِنْهم ، وأضَلّ
وخَذَل مَن شَاء مِنْهم ، كَان غَير ظَالِم لَهُم ، وإنّمَا الظَّالَم مَن
فَعَل غَير مَا أُمِرَ بِه ، والله تَعالى غَيْر مَأمُور لا شَرِيك لَه " .
وهذه هي عقيدة الصحابة رضي الله عنهم .
فقد روى الأئمة : أحمد وعبدُ بن حُميد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان
والبيهقي من طريق ابن الديلمي قال : أتيت أُبيّ بن كَعْب ، فَقُلْتُ له :
وَقَعَ في نَفْسِي شَيء مِن القَدَر ، فَحَدِّثْنِي بِشَيء لَعَلَّه أن
يَذْهَبَ مِن قَلْبِي ، فَقَال : إنَّ الله لَو عَذَّب أهْل سَمَاواته
وأهْل أرْضِه عَذَّبهم غَير ظَالِم لَهم ، ولَو رَحِمَهم كَانَت رَحْمَته
خَيرًا لهم مِن أعْمَالِهم . قال : ثم أتَيتُ عبد الله بن مسعود فَقَال
مِثْل قَوله ، ثم أتَيتُ حذيفة بن اليمان فَقَال مِثْل قَوله ، ثم أتَيتُ
زَيد بن ثابت فَحَدَّثَنِي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِثْل ذلك .
وأهل النار يعترفون يوم القيامة بأنهم كانوا على خطأ ، وأنهم كانوا في
ضلال . قال جلّ ثناؤه في تَوبِيخ أهْل النَّار في النَّار : (أَلَمْ
تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا
ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا
ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .
الرابع : أن الله تعالى أرحم بالناس من أنفسهم وأرحم بهم من أمهاتهم . وهذا ما كنت أشرت إليه في مقال بعنوان :
أترونَ هذه طارحة ولدها في النّار؟!!
فالله يُقيم الحجج على خلقه ، ويُرسل الرّسل ، ويبعث الـنُّذُر ، ولا يُريد سبحانه وتعالى من خلقه سوى عبادته وإفراده بالعبادة .
وأضرب لذلك مثلا – ولله المثل الأعلى - : لو أن شخصا وقف في مفترق طُرُق ،
فكان يُشير وينصح من يأتيه بأن ذلك الطريق سالك آمن ، والطريق الآخر محفوف
بالمخاطر ، والرجل محل ثقة عند الناس ..
فإذا خالفه أحد وسلك الطريق الخطِرة ، فَعَلى من يقع اللوم ؟ هل يقع على
الرجل الذي نصح وأبان وأرشد ودَلّ ؟ أو يقع على الشخص الذي خالَف وسلك
الطريق الْخَطِرَة ؟
لا شك أن اللوم يقع على من خالف .
فكيف إذا كان ذلك في حق الله تعالى ؟ وهو سبحانه وتعالى أقام الحجج وأرسل
الرسل وأنزل الكُتُب ، ولم يَكفِ أن أخذ الميثاق يوم أخذه على ذرية آدم
حينما أخرجهم من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام . فمن خالف أمر الله وعصى
رُسُله فقد سلك سبيل الهلاك ، وهو الْمَلُوم .
أخيرا : أوصي أخي وغيره من أبناء المسلمين أن لا يتشاغلوا بما كُفُوا مؤنته ، وأن يُشغلوا أنفسهم بِما سوف يُسألون عنه .
فنحن لن نسأل عن حساب الْخَلْق ، وإنما سوف نسأل عن أنفسنا . وما أكثر ما
يشتغل الناس بأمور لن يُسألوا عنها ، ويتغافلون عما سوف يُسألون عنه .
وأن يُكثر ألأخ من قراءة كُتُب العقيدة ، ويقرأ في كتاب ابن القيم " شفاء
العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل " ، فهو كتاب حافل نافع
في إزالة ما قد يُشكل من تلك المسائل . والله تعالى أعلم .